الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

من 1.ابك على خطيئتك.--- الي 5.ذم الدنيا

 كتاب المواعظ لابن الجوزي:
مقدمة المصنف:
الحمد لله الذي قطعت أعناق الملحدين عجائب صنعته، وخصمت عقول المتفكرين لطائف حجته، وهتفت في أسماع العالمين ألسنة أدلته، شاهدةً بأنه الواحد في ألوهيته، القديم في وحدانيته، وصلى الله على أشرف بريته، محمد وعلى آله وعترته.
هذه فصول من المواعظ، كالأنموذج للواعظ، ينسج على منوالها، ويدرج في مثالها، تشتمل على إشارات لائحة، وعبارات واضحة، والله المعين.


.الفصل الأول: ابك على خطيئتك:
إخواني: لو تفكرت النفوس فيما بين يديها، وتذكرت حسابها فيما لها وعليها، لبعث حزنها بريد دمها إليها، أما يحق البكاء لمن طال عصيانه: نهاره في المعاصي، وقد طال خسرانه، وليله في الخطايا، فقد خف ميزانه، وبين يديه الموت الشديد فيه من العذاب ألوانه.
روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت، فإذا هو بعمر يبكي، فقال: «يا عمر ههنا تسكب العبرات».
وقال أبو عمران الجوني: بلغني أن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال: يا رسول الله ما يبكيك: فقال: «أو ما تبكي أنت؟ فقال: يا محمد، ما جفت لي عين منذ خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه فيلقيني فيها».
وقال يزيد الرقاشي: إن لله ملائكة حول العرش تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة: يميدون كأنما تنفضهم الريح من خشية الله، فيقول لهم الرب عز وجل: يا ملائكتي، ما الذي يخيفكم وأنتم عبيدي: فيقولون: يا ربنا لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا: ما ساغوا طعاماً ولا شرباً، ولا انبسطوا في شربهم، ولخرجوا في الصحاري يخورون كما تخور البقر.
وقال الحسن: بكى آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة مائة عام حتى جرت أودية سرنديب من دموعه، فأنبت الله بذلك الوادي من دموع آدم الدارصيني والفلفل، وجعل من طير ذلك الوادي الطواويس، ثم إن جبريل عليه السلام أتاه وقال: يا آدم ارفع رأسك فقد غفر لك، فرفع رأسه، ثم أتى البيت فطاف به أسبوعاً، فما أتمه حتى خاض في دموعه.
وقال ابن أسباط: لو عدل بكاء أهل الأرض ببكائه عليه السلام: كان بكاء آدم أكثر:
بكيت على الذنوب لعظم جرمي ** وحق لمن عصى مر البكاء

فلو أن البكاء يرد همي ** لأسعدت الدموع مع الدماء

قال وهيب بن الورد: لما عاتب الله نوحاً أنزل عليه {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}، فبكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت أعينه أمثال الجداول من البكاء.
قال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوحاً لأنه كان نواحاً.
أنوح على نفسي وأبكي خطيئةً ** تقود خطايا أثقلت مني الظهرا

فيا لذة كانت قليل بقاؤها ** ويا حسرةً دامت ولم تبق لي عذرا

وقال السدي: بكى داود حتى نبت العشب من دموعه فلما رماه سهم القدر جعل يتخبط في دماء تفريطه ولسان اعتذاره ينادي: اغفر لي، فأجابه: للخطائين، فصار يقول: اغفر للخطائين.
قال ثابت البناني: حشى داود سبعة أفرش بالرماد ثم بكى حتى أنفذتها دموعه.
تصاعد من صدري الغرام لمقلتي ** فغالبني شوقي بفيض المدامع

وإن في ظلام الليل قمرية إذا ** بكيت بكت في الدوح طول المدامع

قال سليمان التيمي: ما شرب داود عليه السلام شراباً إلا مزجه بدموع عينيه.
قال مجاهد: سأل داود ربه أن يجعل خطيئته في كفه فكان لا يتناول طعاماً ولا شراباً إلا أبصر خطيئته فبكى، وربما أتى بالقدح ثلثاه فمد يده وتناوله، فينظر إلى خطيئته، ولا يضعه على شفتيه حتى يفيض من دموعه.
وقال بعض أصحاب فتح: رأيته ودموعه خالطها صفرة فقلت: على ماذا بكيت الدم؟ قال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله، والدم خوفاً أن لا أقبل، قال: فرأيته في المنام، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: فدموعك! قال: قربتني، وقال: يا فتح على ماذا بكيت الدموع؟ قلت: يا رب على تخلفي عن واجب حقك، قال: فالدم؟ قلت: بكيت على دموعي خوفاً أن لا تصبح لي، قال: يا فتح، ما أردت بهذا كله، وعزتي وجلالي لقد صعد إلى حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة.
أجارتنا بالغدر والركب متهم ** أيعلم خال كيف بات المتيم

رحلتم وعمر الليل فينا وفيكم ** سواءً ولكن ساهرات ونوم

تناءيتم من ظاعنين وخلفوا ** قلوباً أبت أن تعرف الصبر عنهم

ولما جلى التوديع عما حذرته ** ولا زال نظرة تتغنم

بكيت على الوادي فحرمت ماؤه ** وكيف يحل الماء أكثره دم

قال عبد الله بن عمرو: كان يحيى يبكي حتى بدت أضراسه.
قال مجاهد: كانت الدموع قد اتخذت في خده مجرى.
يا من معاصيه أكثر من أن تحصى، يا من رضى أن يطرد ويقصى، يا دائم الزلل وكم ينهى ويوصى، يا جهولا بقدرنا ومثلنا لا يعصي، إن كان قد أصابك داء داود، فَنُحْ نَوْحَ نُوح، تحيا بحياة يحيى.
روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في وجهه خطوط مسودة من البكاء.
وبكى ابن مسعود، حتى أخذ بكفه من دموعه فرمى به.
وكان عبد الله بن عمر يطفئ المصباح بالليل ثم يبكي حتى تلتصق عينيه.
وقال أبو يونس بن عبيد: كنا ندخل عليه فيبكي حتى نرحمه.
وكان سعيد بن جبير، قد بكى حتى عمش.
وكان أبو عمران الجوني، إذا سمع المؤذن، تغير وفاضت عيناه.
وكان أبو بكر النهشلي، إذا سمع الأذان تغير لونه وأرسل عينيه بالبكاء.
وكان نهاد بن مطر العدوي، قد بكى حتى عمي.
وبكى ابنه العلا، حتى عشى بصره.
وكان منصره قد بكى حتى جردت عيناه.
وكانت أمه تقول: يا بني، لو قتلت قتيلاً ما زدت على هذا.
وبكى هشام الدستوائي حتى فسدت عيناه وكانت مفتوحة، وهو لا يبصر بها.
وبكى يزيد الرقاشي أربعين سنة حتى أظلمت عيناه وأحرقت الدموع مجاورتها.
وبكى ثابت البناني حتى كاد بصره أن يذهب، وقيل له: نعالجك، على أن لا تبكي، فقال: لا خير في عين لم تبك:
بكى الباكون للرحمن ليلاً ** وباتوا دمعهم ما يسأمونا

بقاع الأرض من شوقي إليهم ** تحن متى عليها يسجدونا

كان الفضل قد ألف البكا، حتى ربما بكى في نومه حتى يسمع أهل الدار:
ورقت دموع العين حتى كأنها ** دموع دموعي، لادموع جفوني

وكان أبو عبيدة الخواص يبكي، ويقول: قد كبرت فاعتقني.
ويقول الحسن بن عدقة: رأيت يزيد بن هارون بواسط من أحسن الناس عينين ثم رأيته بعد ذلك مكفوف البصر فقلت له: ما فعلت العينان الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار، يا هذا لو علمت ما يفوتك في السحر ما حملك النوم، تقدم حينئذ قوافل السهر على قلوب الذاكرين، وتحط رواحل المغفرة على رباع المستغفرين، من لم يذق حلاوة شراب السحر لم يبلغ عرفانه بالخير، من لم يتفكر في عمره كيف انقرض لم يبلغ من الحزن الغرض.
قيل لعطاء السليمي: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر أن أبكي، وكان يبكي الليل والنهار، وكانت دموعه الدهر سائلة على وجه.
وبكى مالك بن دينار حتى سود طريق الدموع خديه، وكان يقول: لو ملكت البكاء لبكيت أيام الدنيا:
ألا ما لعين لا ترى قلل الحمى ** ولا جبل الديان إلا استهلت

لجوج إذا الحب بكى إذا بكت

قادت الهوى وأحلت ** إذا كانت القلوب للخوف ورقت

رفعت دموعها إلى العين وقت ** فأعتقت رقاباً للخطايا رقت

من لم يكن له مثل تقواهم، لم يعلم ما الذي أبكاهم، من لم يشاهد جمال يوسف: لم يعلم ما الذي آلم قلب يعقوب:
من لم يبت والحب حشو فؤاده ** لم يدر كيف تفتت الأكباد

فيا قاسي القلب، هلا بكيت على قسوتك، ويا ذاهل العقل في الهوى هلا ندمت على غفلتك، ويا مقبلاً على الدنيا فكأنك في حفرتك، ويا دائم المعاصي خف من غب معصيتك، ويا سيئ الأعمال نح على خطيئتك، ومجلسنا مأتم للذنوب، فابكوا فقد حل منا البكاء، ويوم القيامة ميعادنا لكشف الستور وهتك الغطاء.


.الفصل الثاني: تفكر في يوم القيامة:
إخواني تفكروا في الحشر والمعاد، وتذكروا حين تقوم الأشهاد: إن في القيامة لحسرات، وإن في الحشر لزفرات، وإن عند الصراط لعثرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوي حتى النظرات، وإن الحسرة العظمى عند السيئات، فريق في الجنة يرتقون في الدرجات، وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما بينك وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات، وتقول: رب ارجعوني، فيقال: فات.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم».
وأخرجا جميعاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث: «ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم، فقيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة ومزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسك، المؤمن يعبر عليه كالطرف وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، فناج مسلم، وناج مخدوش، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً».
لله در أقوام أطار ذكر النار عنهم النوم، وطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم، فنحلت أجسادهم، وتغيرت ألوانهم، ولم يقبلوا على سماع العذل في حالهم واللوم، دافعوا أنفسهم عن شهوات الدنيا بغد واليوم، دخلوا أسواق الدنيا فما تعرضوا لشراء ولا سوم، تركوا الخوض في بحارها والعوم، ما وقفوا بالإشمام والروم، جدوا في الطاعة بالصلاة والصوم، هل عندكم من صفاتهم شيء يا قوم؟
قالت أم الربيع أم خيثم لولدها: يا بني ألا تنام؟ قال: يا أماه، من جن عليه الليل وهو يخاف الثبات حق له أن لا ينام.
فلما رأت ما يلقي من السهر والبكا، قالت: يا بني لعلك قتلت قتيلاً، قال: نعم، قالت: ومن هذا القتيل حتى نسأل أهله فيغفرون، فوالله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء لرحموك، فقال: يا والدتي، هي نفسي.
قيل لزيد بن مزيد: ما لنا لم نزل نراك باكياً، وجلاً خائفاً، فقال: إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لبكيت حتى لا تجف لي عبرة.
وكان آمد الشامي يبكي وينتحب في المسجد حتى يعلو صوته وتسيل دموعه على الحصى، فأرسل إليه الأمير: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك، وارتفاع صوتك، ولو أمسكت قليلاً، فبكى ثم قال: إن حزن يوم القيامة أورثني دموعاً غزاراً فأنا أستريح إلى ذرها:
يا عاذل المشتاق دعه فإنه ** يطوي على الزفرات غير حشاكا

لو كان قلبك قلبه ما لمته ** حا شاك مما عنده حاشاكا

وعوتب عطاء السلمي في كثرة البكاء، فقال: إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله تعالى، مثلت نفسي بينهم فكيف لنفس تغل يدها وتسحب إلى النار ولا تبكي؟
وقيل لبعضهم: ارفق بنفسك، فقال: الرفق أطلب.
وقال أسلم بن عبد الملك: صحبت رجلاً شهرين، وما رأيته نائماً بليل ولا نهار، فقلت: ما لك لا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى.
كثر فيك اللوم فأين سمعي وهم قلبي واللوم عليك منجد ومتهم؟ قال: أسهرت والعيون الساهرات نوم، وليس من جسمك إلا جلدة وأعظم.. وما عليهم سهرى ولا رقادى لهم، وهل سمان الحب إلا سهر وسقم، خذ أنت في شأنك يا دمعى وخل عنهم.


.الفصل الثالث: بادر بالأعمال الصالحة:
طوبى لمن بادر عمره القصير، فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير.
قال عليه السلام: «بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً؟ أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مجهزاً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر».
كان الحسن يقول: عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون.
وكان يقول: يا بن آدم: السكين تشحذ، والتنور يسجر، والكبش يعتلف.
وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير، وكان عون بن عبد الله يقول: ما أنزل الموت كنه منزلته، ما قد غدا من أجلكم، مستقبل يوم لا يستكمله، وكم من مؤمل لغد لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره، بغضتم الأمل وغروره.
وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي وهو يذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات.
فقيل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه ما مات حتى سرد الصوم.
وكانت عائشة رضي الله عنها تسرد، وسرد أبو طلحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، وقال نافع: ما رأيت ابن عمر صائماً في سفره ولا مفطراً في حضره.
قال سعيد بن المسيب: ما تركت الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة.
وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في ليلتين.
وكان الأسود يقوم حتى يخضر ويصفر، وحج ثمانين حجة.
وقال ثابت البناني: ما تركت في الجامع سادنة إلا وختمت القرآن عندها.
وقيل لعمرو بن هانئ: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف، إلا ما تخطئ الأصابع.
وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، وكان الليل كله يبكي فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلاً، فيقول: أنا أعلم بما صنعت نفسي.
قال الجماني: لما حضرت أبو بكر بن عياش الوفاة بكت أخته، فقال: لا تبك، وأشار إلى زاوية في البيت، إنه قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.
قال الربيع: وكان الشافعي رضي الله عنه يقرأ في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي كل شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلوات، واعلم أن الراحة لا تنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تنال بالفتور، ومن زرع حصد، ومن جد وجد.
لله در أقوام شغلهم تحصيل زادهم، عن أهاليهم وأولادهم، ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلاً بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلاً عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكاً لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم، فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم:
أحيوا فؤادي ولكنهم ** على صيحة من البين ماتوا جميعاً

حرموا راحة النوم أجفانهم ** ولفوا على الزفرات الضلوعا

طوال السواعد شم الأنوف ** فطابوا أصولاً وطابوا فروعاً

أقبلت قلوبهم ترعى حق الحق فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق.
فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقلوب في رياض الملكوت ترعى، نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا، خائفين، وجن عليهم الليل فباتوا ساهرين، وناداهم منادي الصلاح، حي على الفلاح، فقاموا متجهين، وهبت عليهم ريح الأسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلما رجعوا وقت الفجر بالأجر بادى الهجر يا خيبة النائمين.


.الفصل الرابع: اذكر الموت:
إخواني: أكثروا من ذكر هاذم اللذات وتفكروا في انحلال بناء اللذات، وتصوروا مصير الصور إلى الرفات، وأعدوا عدةً تكفي في الكفات، واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت، وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة.
قال الحسن: إن الموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لب به فرحاً.
وقال يزيد بن تميم: من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع.
سئل ابن عياض عن، ما بال الآدمي تستنزع نفسه، وهو ساكت، وهو يضطرب من القرصة؟ قال: لأن الملائكة توقفه.
يا بن آدم، مثل تلك الصرعة قبل أن تذر كل غرة فتتمنى الرجعة، وتسأل الكرة، كم من محتضر تمنى الصحة للعمل هيهات حقر عليه بلوغ الأمل أو يكفي في الوعظ مصرعه، أو ما يشفي من البيان مضجعه.. أما فاته مقدوره بعد إمكانه.. أما أنت عن قليل في مكانة.
ولما احتضر عبد الملك بن مروان قال: والله لوددت أني عبد رجل من تهامة أرعى غنيمات في جبالها وأني لم أل.
وجعل المعتضد يقول عند موته: ذهبت الحيل فلا حيلة حتى صمت.
وقال أبو محمد العجلي: دخلت على رجل في النزع فقال لي: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وفي الحديث: «أما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات؟!».
يا من قد امتطى بجهله مطايا المطالع، لقد ملأ الواعظ في الصباح المسامع، تالله لقد طال المدى فأين المدامع؟ أين الذين بلغوا المنى فما لهم في المنى منازع، رمتهم المنايا بسهامها في القوى والقواطع، فعلموا أن أيام النعم في زمان الخوادع، ما زال الموت يدور على الدوام حتى طوى الطوالع، صار الجندل فراشهم بعد أن كان الحرير فيما مضى المضاجع، ولقوا الله غاية البلاء في تلك البلاقع، جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا، وبنوا مساكنهم فما سكنوا، فكأنهم كانوا بها ظعناً لما استراحوا ساعة ظعنوا.
لقد أمكنت الفرصة أيها العاجز، ولقد زال القاطع وارتفع الحاجز، ولاح نور الهدى فالمجيب فائز، وتعاظمت الرغائب وتفاقمت الجوائر، فأين الهمم العالية، وأين النجائز؟ أما تخافون هادم اللذات والمنى والمناجز.
أما اعوجاج القناة دليل الغامز.
أما الطريق طويل وفيه المفاوز.
أما عقاب العتاب تحوي الهزاهز.
أما القبور قنطرة العبور فما للمجاوز.
أما يكفي في التنقيص حمل الجنائز.
أما العدد كثير فأين المبارز؟
أما الحرب صعب والهلك ناجز.
والقنا مسوغ والطعن واجز.
والأمر عزيز والرماح البوس نواكز.
تالله بطلت الشجاعة من بني العجائز.
وتريد إصلاح نادك والأمر ناشز.
إن لم يكن سبق الصديق فليكن توبة ماعز.


.الفصل الخامس: ذم الدنيا:
أيها العبد: تفكر في دنياك كم قتلت، وتذكر ما صنعت بأقرانك، وما فعلت، واحذرها فإنها عما لا بد منه قد شغلت، وإياك أن تساكنها فإنها إن حلت رحلت.
روى عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مر بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: والذي نفسي بيده إن الدنيا أهون على الله من هذه على أهلها».
وكان يقول في صفة الدنيا: «أولها عناء، وآخرها فناء.
حلالها حساب وحرامها عقاب.
من استغنى بها فتن، ومن افتقر إليها حزن، ومن سعى لها فاتته، ومن نأى عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن بصر بها بصرته».
وصفها بعض العلماء، فقال: جمة المصائب، رتقة المشارب، لا تفي لصاحب.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان: من شربها لم يفق إلا بين عساكر الموتى، نادماً بين الخاسرين قد ترك منها لغير ما جمع، وتعلق بحبل غرورها فانقطع، وقدم على من يحاسبه على الفتيل والنقير والقطمير، فيما انقرض عليه من الصغير والكبير، يوم تزل بالعصاة القدم، ويندم المسىء على ما قدم.
يا من حيات حياته بالآفات لوادغ، وأغراضه المنقلبة إليها منقلبة زوائغ، وشياطين هواه بينه وبين ما هو له نوازع، وسهام سهوه في لهو دينه بوالغ قد جرحت الحجر على قلبه فأنساه الحجر الدامغ، إن وعظ فساه، وإن قوم فزائغ، قلبه ملآن بالهوى، ومن التقى فارغ كأني بك، وسيف الممات في دم الحياة والغ، نازلك فانزلك بالنوى عن الأعالي النوابغ، وتقضي التيامن نبات سلب الحلي الصايغ، ومر إليك فمر عليك الشراب السايغ، وطمس شموس عزك المنيرات النوازغ وخرق دروع المنيعات السدايغ، أين من جمع الأموال وحماها، واهاً لمن جمعها واقتناها، تناهي أجله وما تناهي، كم سلبت الدنيا أقواماً أقواماً كانوا فيها وعادت عزهم أحلاماً أحلاما، فتفكر في حالهم كيف حال، وانظر إلى من مال إلى مال، وتدبر أحوالهم إلى ماذا آل، وتيقن أنك لا حق بهم بعد ليال، عمرك في مدة ونفسك معدود، وجسمك بعد مماتك مع دود، كم أملت أملاً فانقضى الزمان وفاتك، وما أراك تفيق حتى تلقى وفاتك، فاحذر زلل قدمك، وخف طول ندمك، واغتنم وجودك قبل عدمك، واقبل نصحي لا تخاطر بدمك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق