الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

من الفصل العاشر الي الفصل الثالث عشر:يا هذا، كم لك على المعاصي مصر؟

الفصل العاشر:يا هذا، كم تتزيّا بزيّ العبّاد والزهّاد وحال قلبك في الغفلة ما حال، الظاهر منك نقيّ، والباطن منك متسخ بطول الآمال. لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال، ولولا مكابدة المجاهدة لم يسمم القوم رجال.
يا ميت القلب، وعدك في الدنيا صحيح، وفي الآخرة محال، إن لم تبادر في الشباب، فبادر في الاكتهال، وما بعد شيب الرأس لهو ولما أبعد عثرة الشيخ إن تقال. ضيّعت زمان الشباب في الغفلة، وفي الكبر تبكي على التفريط في الأعمال، لو علمت ما أحصي عليك، لكنت من الباكين طول الليال.
قال رجل لذي النون وهو يعظ الناس: يا شيخ، ما الذي أصنع؟ كلما وقفت على باب من أبواب المولى صرفني عنه قاطع المحن والبلوى.
قال له: يا أخي، كن على باب مولاك كالصبي الصغير مع أمه، كلما ضربته أمه ترامى عليها، وكلما طردته، تقرّب إليها، فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها.
يروى أن عيسى عليه السلام كان يسبح في الأرض، ويقول: دابتي رجلاي، ولباسي الشعر، وشعاري خوف الله، وريحاني عشب الأرض، وطعامي خبز الشعير، وظلي ظلمات الليل، ومسكني حيث أواني الليل، وهذا لمن يموت كثير.
ويروى عن الشبلي رضي الله عنه أنه قال: رأيت بدوي بمكة، حرسها الله تعالى، وهو يخدم الصوفية، فسألته عن سبب ذلك، فقال لي: كنت بالبادية، وإذا بغلام حاف مكشوف الرأس ما معه زاد ولا ركوة ولا عصا، فقلت في نفسي: أدرك هذا الفتى، فإذا كان جائعا أطعمته، وإن كان عطشان سقيته.
قال: فبادرت إليه حتى بقي بيني وبينه مقدار ذراع، وإذا به بعد عني حتى غاب عن عيني، فقلت: هذا شيطان وإذا به ينادي: لا بل سكران.
فناديته: يا هذا بالذي بعث محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق إلا ما وقفت عليّ.
فقال لي: يا فتى أتعبتني وأتعبت نفسك.
فقلت له: رأيتك وحدك، فأردت خدمتك.
قال لي: من يكن الله معه، كيف يكون وحده؟!.
فقلت له: ما أرى معك زادا.
فقال لي: إذا جعت فذكره زادي، وإن عطشت فمشاهدته سؤلي ومرادي.
فقلت له: أنا جائع فأطعمني.
فقال: أولم تؤمن بكرامات الأولياء.
فقلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، فضرب بيده الأرض، وكانت أرض رملة، ثم قبض قبضة، وقال: كل يا مخدوع، وإذا هو سويق ألذ ما يكون.
فقلت: ما ألذه!.
فقال لي: في البادية عند الأولياء من هذا كثير لو عقلت.
فقلت له اسقني، فركض برجله الأرض، فإذا هو بعين من عسل وماء، فجلست لأشرب من تلك العين، ثم رفعت رأسي، فلم أره، ولم أدر كيف غاب، ولا أين ذهب، فأنا أخدم الفقراء من ذلك اليوم إلى الآن، لعلي أرى مثل ذلك الولي.
يا هذا، إلى متى تسمع أخبارهم ولا تقفو آثارهم، اطلب رفقة التائبين عساك لطريقهم ترشد، اندب على بعادك يا مطرود، فمثلك من بكى وعدد، اعتذر يا مهجور، عساك بالذل تسعد، وقل بلسان التذلل والأسف والكمد:
كم ذا التلوّم لا إقلاع يصحبه ** ولا عزيمة هذا العجز والكسل

وكم أردّد أقوال ملفقة ** ما ينفع القول إن لم يصدق العمل

واعجبا! كم لي أعاتب المهجور والعتب ما ينفع، كم لي أنادي أطروش الغفلة لو كان النداء يسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع. واها عليك يا جامد العين قط ما تدمع، من علامة الخذلان قلب لا يخشع، قلبك ذهب في حبّ الفاني، وأنت للحرام تجمع. عليك يا غافل في جمعه الحساب، وتخلفه لمن لا ينفع، بينما أنت في بستان اللهو إذ قيل: فلان سافر وليس في رجوعه مطمع.
ويروى عن علي بن أبي صالح أنه قال: كنت أدور في جبّ اللكام أطلب الزهاد والعباد، فرأيت رجلا عليه مرقّعة، هو جالس على صخرة مطرق إلى الأرض.
فقلت له: يا شيخ ما تصنع هاهنا؟.
قال لي: انظر وأرعى.
قلت له: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى. قال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، فبحق الذي أظهرك عليّ إلا ما تركتني، فإنك شغلتني عن مولاي.
فقلت له: كلمني بشيء أنتفع به.
فقال لي: من لازم الباب، أثبت في الخدمة، ومن أكثر من الذنوب، أكثر من الندم، ومن استغنى بالله، لم يخف العدم. ثم تركني ومضى، رضي الله تعالى عنه.
.الفصل الحادي عشر:
يا من رواحله في طلب الدنيا لها إسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ إذا طلبت الآخرة، تمشي رويدا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع! العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي ونقول: عمري قد ضاع. متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع. كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع. يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع. رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل 75].
وأنشدوا:
إذا أنا لم أصبر على من أحبه ** وإن حال عن وصلي فما أنا صانع

أأتركه والقلب من فرط حبه ** أسير بما تطوي عليه الأضالع

أأسمع فيه العذل والوجد حاكم ** فما يغنني بالعذل ما أنا سامع

أأسلوه والشوق يمنع سلوتي ** وأكتم ما قد أظهرته المدامع

ويعتبني قلبي إذا زاد وجده ** فأضرب صفحا دونه وأمانع

وإن زاد بي أشتكيه فحسبه ** على كل حال عند شكواي شافع

فلا عشة تصفو ولا موعد يفي ** ولا نظر يسلي ولا الصبر نافع

أرى الدهر يمضي برهة بعد برهة ** ولم ألف ما مالت إليه المطامع

فان ضقت ذرعا بالذي قد لقيته ** فكل مضيق فهو في الحب واسع

قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت امرأة متعبدة، فلما دنوت منها،
ودنت مني، سلمت عليّ، فرددت عليها السلام، فقالت لي: من أين أقبلت؟ فقلت من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت صيحة شديدة، ثم قالت: ويحك كيف وجدت معه وحشة الغربة حتى فارقته، وهو أنيس الغرباء، ومعين الضعفاء، ومولى الموالي؟! أم كيف سمحت نفسك بمفارقته؟.
فأبكاني كلامها. فقالت لي: مم بكاؤك؟ فقلت لها: وقع الدواء على الجرح، فأسرع في نجاحه، فقالت لو كنت صادقا، فلم بكيت؟ فقلت لها: فالصادق لا يبكي؟ قالت: لا. قلت: ولم؟ قالت: لأن البكاء راحة للقلب. وهو نقص عند ذوي العقول.
قلت لها: علميني شيئا ينفعني الله به.
قالت: اخدم مولاك شوقا إلى لقائه، فإن له يوما يتجلى فيه إلى أوليائه، لأنه سبحانه سقاهم في الدنيا من محبته كأسا لا يظمؤون بعدها أبدا.
ثم أقبلت تبكي وتقول: إلهي وسيدي، إلى كم تدعني في دار لا أجد لي فيها أنيسا يساعدني على بلائي، ثم جعلت تقول:
إذا كان داء العبد حب مليكه ** فمن دونه يرجى طبيبا مداويا

يا أخي، إذا طردك مولاك عن بابه؟ فإلى باب من ترجع، والى أي طريق تذهب، والى أي جهة تقصد؟ لازم باب مولاك، فلعل وعسى يثمر عودك.
وأنشدوا:
حنين قلوب العارفين إلى الذكر ** وتذكارهم عن المناجاة بالسر

وأجسامهم في الأرض سكرى بحبه ** وأرواحهم في ليل حجب العلى تسرى

عباد عليهم رحمة الله أنزلت ** فظلوا عكوفا في الفيافي وفي القفر

وراعوا نجوم الليل لا يرقدونه ** بإدمان تثبيت اليقين مع الصبر

فهذا نعيم القوم إن كنت فاهما ** وتعقل عن مولاك آداب من يدري

فما عرسوا لا بقرب حبيبهم ** ولا عرّجوا عن مسّ بؤس ولا ضرّ

أديرت كؤوس للمنايا عليهم ** فغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي سكر

همومهم جالت لدى حجب العلى ** وهم أهل ودّ الله كالأنجم الزهر

فلا عيش إلا مع أناس قلوبهم ** تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر

ويروى عن بعض العبّاد رضي الله عنه أنه قال: بينما أنا في الطريق أسير، وكنت صائما، فرأيت نهرا جاريا، فانغمست فيه، فإذا أنا بسفرجلة على وجه الماء، فأخذتها لأفطر عليها.
قال: فلما أفطرت عليها ندمت، وقلت: أفطرت على ما ليس لي، فلما أصبحت سرت، فضربت على باب البستان الذي كان النهر يخرج منه، فخرج إليّ شيخ كبير، فقلت له: يا شيخ، إنه خرج من بستانكم هذا بالأمس سفرجلة، فأخذتها وأكلتها، وقد ندمت على ذلك، فعسى أن تجعلني في حل.
فقال لي: أما أنا في هذا البستان أجير، ولي فيه منذ أربعين سنة ما ذقت من فاكهته شيئا قط، وليس لي في البستان شيء. قلت: لمن هو: قال: لأخوين بالموضع الفلاني.
قال: فأتيت الموضع، فوجدت أحدهما، فقصيت عليه القصة، فقال: نصف البستان لي، وأنت حل من نصيبي في تلك السفرجلة. فقلت له: وأين أجد أخاك؟ قال: بموضع كذا وكذا.
فمضيت إليه، وقصيت عليه القصة، فقال لي: والله لا أجعلك في حل إلا بشرط. فقلت: وما الشرط؟ قال: أزوّجك ابنتي وأعطيك مائة دينار. قال له العابد: ويحك أنا في شغل عن هذا. أما رأيت ما أصابني لأجل سفرجلتك؟ فاجعلني حل. فقال له: والله ما فعلت إلا بالشرط المذكور.
فلما رأى العابد منه الجد، امتثل، وقال افعل، فأعطاه مائة دينار، ثم قال له: أعطني منها ما شئت مهر ابنتي، فرمى بها كلها إليه، فقال له: لا، إلا البعض.
قال: فزوّجه ابنته، فلامه الناس على ذلك، وقالوا له: خطب ابنتك أرباب الدولة وكبراء الناس، ولم تعطها لهم، فكيف أعطيتها لفقير لا مال له؟ فقال لهم: يا قوم إنما رغبت في الورع والدين، ولأن هذا الرجل من عباد الله الصالحين، رضي الله عنهم أجمعين.
.الفصل الثاني عشر:
يا من عمي عن طريق القوم، عليك بإصلاح نور البصر. القلب المظلم يمشي في شوك الشك وما عنه خبر. وقت التائب كله عمل: نهاره صوم، وليله سهر، ووقت البطال كله غفلة، وبصيرته عميت عن النظر. من ذاق حلاوة الزهد، استحلى التهجد والسهر، إن تدرك المتجهدين في أول الليل، ففي أعقاب السحر. تيقّظ من نوم الغفلة، فهذا فجر المشيب انفجر، وأذلة التخلف إذا تخلف عن الباب وما حضر!.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يكونن أحدكم كالعبد السوء، إن خاف عمل، وإن لم يخف فلا عمل، أو كالأجير السوء، إن لم يعط أجرا وافرا لم يعمل».
أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، العاشقون يعيشون في حلم الله، والذاكرون يعيشون في رحمة الله، والعارفون يعيشون في لطف الله، والصّدّيقون يعيشون في بساط الأنس بالله يطعمهم ويسقيهم.
قال أبو بكر الرازي: قال ابن عطاء: لما أكل آدم من الشجرة، طرده كل شيء ونفاه عن نفسه، وأبعده عن نفسه، وأبعده عن قربه، إلا شجرة العود، فإنها آوته. وبكى عليه كل شيء إلا الذهب والفضة.
فأوحى الله إليهما: ما لكما لا تبكيان على محب طرده محبوبه؟ فقالا: إلهنا، وما كنا لنبكي على محب عصى محبوبه. فقال: وعزتي وجلالي، لأعزنّكما ولأجعلنّكما قيمة كل شيء، ولأجعلنّ لأولاد آدم خدّاما لكما.
وأوحى الله إلى العود: ومالك أويت طريد مولاه؟ فقال: رحمة مني على ذلك.
فقال: وعزتي وجلالي، لأعذبنك بالنار في الدنيا، ولا ينتفع بك إلا بعد إحراقك، لأنك آويت من عصى في جوار مولاه بمرأى منه واطلاع عليه.
وأنشدوا:
لقد ورد التقاة فما وردنا ** فهمنا والهين وما فهمنا

أحبّتنا بطيب الوصل جودوا ** فغير الجود منكم ما عرفنا

فان جدتم فعفوكم رجونا ** وبابكم الكريم به وقفنا

تذللنا بباكم عساكم ** بلطف جنابكم فارضوا علينا

وحقّكم لقد جئنا حماكم ** وآوينا لكم لكن طردنا

وحالت بيننا حجب المعاصي ** ولولا الذنب عنكم ما حجبنا

وما كان النوى والبعد منكم ** ولكن أصله مما افترقنا

فتحتم باب جودكم امتنانا ** علينا بعد جرم كان منا

فلم نصلح لقربكم ولكن ** أسأنا ثم تبنا ثم عدنا

وعاملناكم بالعدل دهرا ** وعاهدناكم زمنا فخنّا

ولم ينقض لكم عهد ولكن ** علينا قد نقضنا ما نقضنا

طردنا بالجرائم عن رضاكم ** ولو كنا له أهلا قبلنا

وأقررنا بزلتنا لديكم ** فجودوا بالرضا إن اعترفنا

ومن يرجو العبيد يوى الموالي ** فأنتم راحمونا كيف منا

وهل في غيركم عنكم بديل ** وهل لولاكم للحق معنى

فما أشهى وصالكم وأحلى ** وما أعلى مقامكم وأسنى

فعزتنا تذللنا إليكم ** وأشرف حالنا لكم إن خضعنا

بجاه محمد خير البرايا ** تشفعنا لكم وبه اعتصمنا

عليه تحيّة ما لاح برق ** وتاق لحبّه قلب المعنّى

الفصل الثالث عشر:
يا هذا، كم لك على المعاصي مصر؟
متى يكون منك المتاب؟ جسمك باللهو عامر، وقلبك من التقوى خراب، ضيّعت الشباب في الغفلة، وعند الكبر تبكي على زمان الشباب. في المجلس تبكي على الفائت، وإذا خرجت عدت للانتهاب. لا حيلة لوعظي فيك وقد غلق في وجهك الباب. كم لي أحدّث قلبك، وأرى قلبك غائبا مع الغيّاب، يا من قلبه مشغول، كيف تفهم الخطاب. وافرحة إبليس إذا طردت عن الباب! هذا مأتم الحزان، هذا المجلس قد طاب. رحلت رفاق التائبين إلى رفاق الأحباب. يا وحشة المهجور المبعد عن الباب إذا لم يجد للقرب والدنو سببا من الأسباب. يا منقطعا عن الرفاق الأحباب، تعلق بأعقاب الساقة بذلّ وانكسار ودمع ذي انسكاب، وقل: تائه في بريّة الحرمان، مقطوع فيه تيه الشقاء، مسبول دونه الحجاب، كلما رام القيام، أقعده وأبعده بذنوبه الحجّاب، لا زاد ولا راحلة ولا قوة، فأين الذهاب؟ عسى عطفة من وراء ستر الغيب تهون عليك صعاب المصاب.
لله درّ أقوام شاهدوا الآخرة بلا حجاب، فعاينوا ما أعدّ الله للمطيعين من الأجر والثواب. ترى لماذا أضمروا أجسادهم وأظمؤوا أكبادهم، وشرّدوا رقادهم، وجعلوا ذكره بغيتهم ومرادهم؟!.

وأنشدوا:
يا رجال الليل مهلا عرّسوا ** إنني بالنوم عنكم مشتغل

شغلتني عنكم النفس التي ** تقطع الليل بنوم وكسل

أنا بطّال وأنتم ركّع ** زاد تفريطي وزدتم في العمل

قلت مهلا سادتي أهل الوفا ** حمل القوم وقالوا لا مهل

قال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء: أن إذا أردت أن تسكن معي في حظيرة القدس، فكن وحيدا في الدنيا، فريدا مهموما حظينا، كالطير الوحيد يظل في أرض الفلاة، يرد ماء العيون، ويأكل من أطراف الشجر، فإذا جنّ عليه الليل، آوى وحده استيحاشا من الطير، واستئناسا لربه.
ويروى عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: مرّ عابد براهب، فقال له: يا راهب، كيف ذكرك للموت؟ قال: أرفع قدما ولا أضع أخرى، إلا خشيت أن قد مت.
قال: كيف كان نشاطك للصلاة؟ قال: ما سمعت أحدا سمع بالجنة، فأتت عليه ساعة إلا صلى ركعتين.
قال العابد: يا راهب، مالكم تلبسون هذه الخرق السود؟ قال الراهب: لأنها من لباس أهل المصائب.
فقال له العابد: أكلكم معشر الرهبان قد أصيب بمصيبة. قال الراهب: يا أخي وأي مصيبة أعظم من مصيبة الذنوب على أهلها؟.
قال العابد: فما تذكرت هذا الكلام، إلا وبكيت.
قال العتبي: أنشد رجل من أهل الزهد هذه الأبيات:
ويوم ترى الشمس قد كوّرت ** وفيه ترى الأرض قد زلزلت

وفيه ترى كل نفس غدا ** إذا حشر الناس ما قدّمت

أترقد عيناك يا مذنبا ** وأعمالك السوء قد دوّنت

فإما سعيد إلى جنة ** وكفاه بالتور قد خضّبت

وإما شقي كسى وجهه ** سوادا وكفاه قد غللت

خرج عمر بن عبد العزيز في بعض أسفاره، فلما اشتد الحرّ عليه، دعا بعمامة فتعمم بها، فلم يلبث أن نزعها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لم نزعتها؟ لقد كانت تقيك الحرّ. قال: ذكرت أبياتا قالها الأول، وهي هذه:
من كان حين تمسّ الشمس جبهته ** أو الغبار يخاف الشين والشعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشته ** فسوف يسكن يوما راغما جدثا

في قعر مظلمة غبراء موحشة ** يطيل تحت الثرى في جوفها اللبثا

وقد خرج عيسى بن مريم عليه السلام على الحواريين وعليهم آثار الغبار، وعلى وجوههم النور، فقال: يا بني الآخرة، ما تنعّم المتنعمون إلا بفضل نعمتكم.
وقيل للحسن البصري رضي الله عنه: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: خلوا بالرحمن، فألبسهم نورا من نوره.
وروي عن أبو ماجد، قال: كنت أحب الصوفية، فاتبعتهم يوما إلى مجلس عالم، فرأيت في المجلس شخصا تتمنى النفوس دوام النظر إليه، وهو يبكي كلما سمع العالم والقارئ يقول: الله، الله، فلم تنقطع له دمعة.
فتعجبت من توكّف عبراته، وترتداف زفراته، مع صغر سنه، وغضّ شبابه، فسألت بعض الصوفية عنه فقال: انه تائب غزير الدموع، كثير السجود والركوع، رقيق القلب شفيق الحب.
فبينما نحن كذلك، إذا قرأ القرآن: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة 152] فقام قائما على قدميه، وهو يقول: سيّدي، خاب من في قلبه غير ذكرك وهل في الأكوان غيرك حتى يذكر يا حبيب القلوب؟!.
وأنشدوا:
تهتّكي في الهوى حلا لي ** وعاذلي ما له وما لي

يلومني في الغرام جهلا ** وكلما لامني حلا لي

قالوا تسليّت قلت كلا ** يا قوم مثلي يكون سالي

قالوا تعشقت قل أهلا ** لقد تعشّقت لا أبالي

قال أبو علي: الرّجال في هذا المقام على أربعة أقسام:
القسم الأول: رجل قد استولى على قلبه عظمة الله وكحبته، فاشتغل بذكره عن ذكر من سواه، ولم تله الأكوان عن الاستئناس بذكره، فهذا هو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور 37].
والثاني: رجل عاهد الله تعالى بصدق الاجابة، وتحقق العبودية، وإخلاص الورع، والقيام بالوفاء، فهو الذي وصفه الله تعالى بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب 23].
والثالث: رجل يتكلم لله وفي الله وبالله ومن أجل الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر على سائر ضمائر الأسرار، ثم على ظواهر النفوس الأغيار، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس 20].
والرابع: رجل يتكلم سره عن نفسه وعن الملكين الموكلين، ولا يطّلع على سرّه إلا مولاه، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، إلى قوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر 23]، فهذا هو في ظاهره كالسّليّ الخليّ، وفي باطنه كالمتوليّ الشجيّ.
وأنشدوا:
إليك وإلا لا يفيد سرى الساري ** ولا حرف إلا ما تلاه لك القاري

فيا منيتي يا بغيتي بل ورحمتي ** ويا جنتي في كل حال ويا ناري

إذا صحّ منك الاعتقاد فكل ما ** على الأرض فان من شموس وأقمار

قال المغيرة بن حبيب: كنت أسمع بمجاهدة المحبين، ومناجاة العارفين، وكنت أشتهي أن أطّلع على شيء من ذلك، فقصدت مالك بن دينار، فرمقته على غفلة وراقبته من حيث لا يعلم ليالي عدة، فكان يتوضأ بعد العشاء الآخرة، ثم يقوم إلى الصلاة، فتارة يفني ليلة في تكرار آية أو آيتين، وتارة يدرج القرآن درجا،
فإذا سجد وحان انصرافه من صلاته، قبض على لحيته، وخنقته العبرة، وجعل يقول: بحنين الثكلى وأنين الولهى، يا إلهي، ويا مالك رقّي، ويا صاحب نجواي، ويا سامع شكواي، سبقت بالقول تفضلا وامتنانا، فقلت: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة 54]، والمحبّ لا يعذ حبيبه، فحرم شيبة مالك على النار. إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأيّ الرجلين مالك، وأي الدارين دار مالك؟.
ثم يناجي كذلك إلى أن يطلع الفجر، فيصلي الصبح بوضوء العتمة رحمه الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق