الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

4.عرض كتاب صيد الخاطر^%^

فصل : أجود الأشياء قطع أسباب الفتن
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة ، و قل أن يقاربها إلا من يقع فيها . و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
قال بعض المعتبرين : قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم ، و تحتمل الإباحة ، إذ المر فيها مردد ، فجاهدت النفس فقالت : أنت ما تقدر فلهذا تترك ، فقارب المقدور عليه ، فإذا تمكنت فتركت كنت تاركاً حقيقة .
ففعلت و تركت ، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه الجواز ، و إن كان الأمر يحتمل ، فلما وافقتها أثر ذلك ظلمه في قلبي ، لخوف أن يكون الأمر محرماً ، فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص و التأويل ، و تارة أقوى عليها بالمجاهدة و الإمتناع .
فإذا ترخصت لم آمن أن يكون ذلك المر محظوراً ، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل في القلب فلما لم آمن عليها بالتأويل تفكرت في قطع طمعها من ذلك الأمر المؤثر ، فلم أر ذلك إلا بأن قلت لها : قدري أن هذا الأمر مباح قطعاً ، فو الله لا إله إلا هو لا عدت إليه .
فانقطع طمعها باليمين و المعاهدة . و هذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها ، لأن تأويلها لا يبلغ إلى أن تأمر بالحنث و التفكير .
فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن و ترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً و مؤدياً إلى ما لا يجوز ، الله الموفق .
· فصل : سكرة الهوى حجاب
لولا غيبة العاصي في و قت المعاصي كان كالمعاند ، غير أن الهوى يحول بينه و بين الفهم للحال ، فلا يرى إلا قضاء شهوته.
و إلا فلو لاحت له المخلفة خرج من الدين بالخلاف ، فإنما يقصد هواه فيقع الخلاف ضمناً و تبعاً .
و أكثر ما يقع هذا في مقاربة الفتنة ، و قل من يسلم عند المقاربة ، لأنه كتقديم نار إلى حلفاً . ثم لو ميز العاقل بين قضاء و طرده لحظة و إنقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه و لو أعطى الدنيا . غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر و ذلك . آه كم معصية في ساعتها كأنها لم تكن ثم بقيت آثارها ، و أقلها ما لا يبرح من المرارة في الندم و الطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب فتنة . و لا يقاربه ، فمن فهم هذا و بالغ في الاحتراز كان إلى السلامة أقرب .
· فصل : البلاء على قدر الرجال
البلايا على مقادير الرجال . فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم من دين و دنيا .
و أولئك قوم لم يرادوا لمقاسات الصبر الرفيعة ، أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم .
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع و تجويد الدين ، و كمال العلم ، ثم تبتلي بنفس تميل إلى المباحات ، و تدعي أنها تجمع بذلك همها ، و تشفي مرضها ، لتقبل مزاحمة العلة على تحصيل الفضائل . و هاتان الحالتان كضدين ، لأن الدنيا و الآخرة ضربتان .
و اللازم في هذا المقام مراعات الواجبات ، و ألا يفسح للنفس في مباح لا يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ورع .
المبتلي يصيح ، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الولد .
و اعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثير في الدين فأوثق السكر قبل فتح الماء ، و البس الدرع قبل لقاء الحرب ، و تلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد و استظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه و إن لم يتيقن .
· فصل : مع العدل و الأنصاف تأتي كل مراد
ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفاً إلى الحفظ و الإعادة ، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى .
غير أن البدن مطية ، و إجتهاد السير مظنه الانقطاع ، و لما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد ، و كان النسخ و المطالعة و التصنيف لا بد منه ، مع أن المهم الحفظ وجب تقسيم الزمان على المرين ، فيكون الحفظ في طرفي النهار و طرفي الليل ، و يوزع الباقي بين عمل بالنسخ و المطالعة ، و بين راحة للبدن و أخذ لحظه .
و لا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء ، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن و بان أثره ، و إن النفس لتهرب إلى النسخ و المطالعة و التصنيف عن الإعادة و التكرار ، لأن ذلك أشهى و أخف عليها .
فليحذر الراكب من إهمال الناقة ، و لا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق و مع العدل و الإنصاف يتأتى كل مراد .
و من انحرف عن الجادة طالت طريقه .
و من طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لأجله ، على أن الإنسان إلى التحريض أحوج لأن الفتور ألصق به من الجد .
و بعد ، فاللازم في العلم طلب المهم ، فرب صاحب حديث حفظ مثلاً لحديث : من أتى الجمعة فليغتسل : عشرين طريقاً ، و الحديث قد ثبت من طريق واحد ، فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل ، و العمر أقصر و النفس من أن يفرط منه في نفس ، و كفى بالعقل مرشداً إلى الصواب ، و با الله التوفيق .
· فصل : من قال : لا أدري فقد أفتى
أذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف ، فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري ، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال : جهلوا الجواب ، و إن كانوا على غير يقين مما قالوا ، و هذا نهاية الخذلان .
و قد روى عن مالك بن أنس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال : لا أدري ، فقال سافرت البلدان إليك ، فقال : ارجع إلى بلدك و قل : سألت مالكاً فقال : لا أدري .
فانظر إلى دين هذا الشخص و عقله كيف استراح من الكلفة ، و سلم عند الله عز وجل . ثم إن كان المقصود الجاه عندهم ، فقلوبهم بيد غيرهم .
و الله لقد رأيت من يكثر الصلاة و الصوم و الصمت ، و يتخشع في نفسه و لباسه ، و القلوب تنبوا عنه ، و قدره في النفوس ليس بذلك . و رأيت من يلبس فاخر الثياب و ليس له كبير نفل و لا تخشع ، و القلوب تتهافت على محبته .
فتدبرت السبب فوجدته السريرة ، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة و صوم ، و إنما كانت له سريرة .
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله ، و عبقت القلوب بنشر طيبه . فا الله الله في السرائر ، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر .
· فصل : الدنيا دار ابتلاء و إختبار
نزلت في شدة و كأثرت مت الدعاء أطلب الفرج و الراحة . و تأخرت الإجابة ، فانزعجت النفس و قلقت ، فصحت بها : ويلك ، تأملي أمرك ، أمملوكة أنت أم حرة مالكة ؟ أمدبرة أنت أم مدبرة ؟
أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء و اختبار ، فإذا طلبت أغراضك و لم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الإبتلاء ؟ و هل الإبتلاء إلا الإعراض و عكس المقاصد ؟
فافهمي معنى التكليف و قد هان عليك ما عز ، و سهل ما استصعب .
فلما تدبرت ما قلته سكنت بعض السكون .
فقلت لها : و عندي جواب ثان ، و هو أنك تقتضين الحق بأغراضك و لا تقتضين نفسك بالواجب له ، و هذا عين الجهل .
و إنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس ، لأنك مملوكة ، و المملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك ، و يعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى ، فسكنت أكثر من ذلك السكون .
فقلت لها : و عندي جواب ثالث ، و هو أنك قد استبطأت الإجابة ، و أنت سددت طرقها بالمعاصي ، فلو قد فتحت الطريق أسرعت . كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى .
أو ما سمعت قوله تعالى : و من يتق الله يجعل له مخرجاً * و يرزقه يجعل له من أمره يسراً .
أو ما فهمت أن العكس بالعكس ؟
آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني ، فعرفت النفس أن هذا حق فطمأنت .
فقلت : و عندي جواب رابع ، و هو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته ، و ربما كان فيه ضررك ، فمثلك كمثل طفل محموم يطلب الحلوى ، و المدبر لك أعلم بالمصالح ، كيف و قد قال الله : و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم .
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة ، زادت طمأنينتها .
فقلت لها : و عندي جواب خامس ، و هو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك ، و يحط من مربتبتك ، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك ، و لو أنت طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك . فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت . فقالت : لقد سرحت في رياض ما شرحت . فهمت إذ فهمت .
· فصل : إدخر المال و إستغن عن الناس
حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال . فرأيت العلماء أذل الناس عندهم . فالعلماء يتواضعون لهم و يذلون لموضع طمعهم فيهم . و هم لا يحلفون بهم لما يعلمونه من إحتياجهم إليهم .
فرأيت هذا عيباً في الفريقين .
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم . و لكن لجهلهم بقدره فاتهم و آثروا عليه كسب الأموال . فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون و لا يعلمون قدره .
و إنما أعود باللوم على العلماء و أقول : ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال . و إن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم و الطلب منهم حراماً عليكم . و إن كنتم في كفاف فلم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة ، إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر ، أني علمت قلة صبر النفس على الكفاف و العزوف عن الفضول ، فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام .
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى . و يبالغ في الكسب ، و إن ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم ، فإنه يصون بعرضه عرضه .
و قد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت و خلف مالاً .
و خلف سفيان الثوري مالاً و قال : [ لولاك لتمندلوا بي ] .
و قد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال ، و من كان من الصحابة و العلماء يقتنيه . و السر في فعلهم ذلك .
و حثى طالبي العلم على ذلك ما بينته من أن النفس لا تثبت على التعفف ، و لا تصبر على دوام التزهد .
و كم رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في يده ، ثم ضعفت فعاد يكتسب من أقبح وجه .
فالأولى إدخار المال و الاستغناء عن الناس ، ليخرج الطمع من القلب ، و يصفو نشر العلم من شائبة ميل .
و من تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة .
و إنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لم يؤثر عنده بذل الدين و الوجه فطلب الراحة و نسى أنها في المعنى عناء ، كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم و ادعاء التوكل ، و ما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل . و إنما طلبوا طريق الراحة و جعلوا التعرض للناس كسباً ، و هذه طريقة مركبة من شيئين : أحدهما : قلة الأنفة على العرض . الثاني : قلة العلم .
· فصل : خطر موافقة الهوى
تأملت وقوع المعاصي من العصاة فوجدتهم لا يقصدون العصيان ، و إنما يقصدون موافقة هواهم ، فوقع العصيان تبعاً ، فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة ، فإذا به ملاحظتهم لكرم الخالق ، و فضله الزاخر .
و لو أنهم تأملوا عظمته و هيبته ما انبسطت كف بمخالفته .
فإنه ينبغي و الله أن يحذر ممن أقل فعله تعميم الخلق بالموت ، حتى إلقاء الحيوان البهيم للذبح ، و تعذيب الأطفال بالمرض ، و فقر العالم ، و غنى الجاهل .
فليعرض المقدم على الذنوب على نفسه الحذر ممن هذه صفته ، فقد قال الله تعالى : و يحذركم الله نفسه .
و ملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرجاء .
فالخائف آخذ بالحزم ، و الراجي متعلق بحبل طمع ، وقد يخلف الظن .
· فصل : القناعة بالقليل
رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء و يستذلونهم بشيء يسير يعطونهم من زكاة أموالهم ، فإن كان لأحدهم ختمة فلان ما حضر ، و إن مرض قال فلان ما تردد ، و كل منته عليه شيء نزر يجب تسليمه إلى مثله .
و قد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة . فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم ، و دواؤه من جهتين :
إحداهما : القناعة باليسير . كما قيل : من رضي بالخل و البقل لم يستعبده أحد .
الثاني : صرف بعض الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا ، فإنه يكون سبباً لإعزاز العلم ، و ذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم ، مع احتمال هذا الذل .
و من تأمل ما تأملته و كانت له أنفة قدر قوته ، و احتفظ بما معه ، أو سعى في مكتسب يكفيه ، و من لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه .
· فصل : ثمرة العقل فهم الخطاب
مدار الأمر كله على العقل ، فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل ، و ثمرة العقل فهم الخطاب ، و تلمح المقصود من الأمر .
و من فهم المقصود و عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق .
و إني رأيت كثيراً من الناس لا يعملون على دليل ، بل كيف اتفق ، و ربما كان دليلهم العادات ، و هذا أقبح شيء يكون .
ثم رأيت خلقاً كثيراً لا يتبعون الدليل بطريق إثباته كاليهود و النصارى . فإنهم يقلدون الآباء و لا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا ، و كذلك يثبتون الإله و لا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز ، فينسبون إليه الولد ، و يمنعون جواز تغييره ما شرع .
و هؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع و ما يجوز عليه ، و لا الدليل على صحة النبوات ، فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل .
و من هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون و يتزهدون و ينصبون أبدانهم في العلم بأحاديث باطلة ، و لا يسألون عنها من يعلم .
و من الناس من يثبت الدليل و لا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل .
و من هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا ، و ما فهموا المقصود ، فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها ، و أن النفس تجب عداوتها ، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق ، و عذبوها بكل نوع و منعوها حظوظها ، جاهلين بقوله صلى الله عليه و سلم إن لنفسك عليك حقا .
و فيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض ، و نحول الجسم ، و ضعف القوى .
و كل ذلك لضعف الفهم للمقصود و التلمح للمراد . كما روي عن داود الطائي أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه و هو شديد البحر .
و قال لسفيان : [ إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب ، و تشرب الماء البارد المبرد ، فمتى تحب الموت و القدوم على الله ؟ ]
و هذا جهل بالمقصود . فإن شرب الماء الحار يورث أمراضاً في البدن و لا يحصل به الري .
و ما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة ، بل تترك ما تدعو إليه من ما نهى الله عنه .
و في الحديث الصحيح : أنا أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله ، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و فرش له في ظل صخرة .
و كان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الماء . و قال : إن عندكم ماء بات في شن و إلا كرعنا .
و لو فهم داوود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل هذا .
ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة و الخوف و كان يأكل اللذيذ و يقول : [ إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل ] .
و لعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول : هذا ميل على الزهاد .
فأقول : كن مع العلماء ، و أنظر إلى طريق الحسن ، و سفيان ، و مالك ، و أبي حنيفة ، و أحمد ، و الشافعي ، و هؤلاء أصول الإسلام .
و لا تقلد دينك من قل علمه و إن قوى زهده ، و احمل أمره على أنه كان يطيق هذا و لا تقتد بهم فيما لا تطيقه ، فليس أمرنا إلينا ، و النفس وديعة عندنا ، فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي نكرت عليهم .
و هذا رمز إلى المقصود . و الشرح يطول .
· فصل : العلم أشرف مكتسب
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم لا ينظر فيما لا يجني من مكروه .
مثاله أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل و ملكه و تدبيره .
فإذا رأى الإنسان عالماً محروماً ، و جاهلاً مرزوقاً ، أوجب عليه الدليل المثبت حكمة الخالق التسليم إليه ، و نسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه .
فإن أقواماً لم يفعلوا ذلك جهلاً منهم ، أفتراهم بماذا حكموا ؟ بفساد هذا التدبير ؟ أليس بمتقضى عقولهم ؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه ؟
فكيف يحكم على حكمته و تدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالإضافة إليه أنقص من كل شيء ؟
و لقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالساً على الجسر و في يده رغيف يأكله ، فجازت خيل و أموال ، فقال : لمن هذه ؟ فقيل : لفلان الخادم . ثم جازت خيل و أموال ، فقال : لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم .
فلما مر الخادم رأى شخصاً محتقراً ، فرمى الرغيف إلى ناحيته و قال : و هذا لفلان ! ما هذه القسمة !
و لو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته و قلة تعظيمه له . و ذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش ، و لكنه ميراث إبليس ، حيث إعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام .
فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه ، و من مملوك يتيه على سيده .
و مما ينبغي أن يتبع فيه الدليل ، و لا يلتفت إلى ما جنت الحال ، أن العلم أشرف مكتسب .
و قد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا ، ففأزوروا على العلم و قالوا : لا فائدة فيه ، و ذلك لجهلهم بمقدار العلم ، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى . و إنما يبين الاختبار بفقد الغرض .
و لو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى الله عليه و سلم إلا إعراضه عن الدنيا و تضييق العيش عليه . ثم لن يخلف شيئاً ، و حرم أهله الميراث ، لكفاءة ذلك دليلاً على صدق طلبه لمطلوب آخر .
و ربما رأى الجاهل قوماً من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم و يدعيه ناقصاً ، و هذا غلط كبير ، فليتق الله العاقل و ليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى و العمل بالعلم ، و ليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات ، و ليلزم إتباع الدليل و إن جنى مكروهاً و الله الموفق .
· فصل : عاقبة الصبر و نهاية الهوى
قرأت سورة يوسف عليه السلام . فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره ، و شرح قصته للناس و رفع قدره بترك ما ترك . فتأملت خبيثة الأمر ، فإذا هي مخالفة للهوى المكروه .
فقلت : واعجباً لو وافق هواه من كان يكون ؟
و لما خالفه لقد صار أمراً عظيماً تضرب الأمثال بصبره ، و يفتخر على الخلق بإجتهاده .
و كل ذلك قد كان بصبر ساعة ، فيا له عزاً و فخراً ، أن تملك نفسك ساعة الصبر عن المحبوب و هو قريب .
و بالعكس منه حالة آدم في موافقته هواه ، لقد عادت نقيصة في حقه أبداً ، لولا التدارك فتاب عليه .
فتلمحوا رحمكم الله عاقبة الصبر و نهاية الهوى .
فالعاقل من ميز بين الأمرين : الحلوين ، و المرين . فإن من عدل ميزانه و لم تمل به كفة الهوى رأى كل الأرباح في الصبر ، و كل الخسران في موافقة النفس . و كفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهي . و الله الموفق .
· فصل : لا يصلح العلم مع قلة العمل
رأيت الاشتغال بالفقه و سماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب ، إلا أن يمزح بالرفائق و النظر في سير السلف الصالحين ، لأنهم تناولوا مقصود النقل . و خرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها و المراد بها .
و ما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة و ذوق لأني وجدت المحدثين و طلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي و تكثير الأجزاء .
و جمهور الفقهاء في علوم الجدل و ما يغالب به الخصم .
و كيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟
و قد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته و هديه . لا لاقتباس علمه .
و ذلك أن ثمرة علمه هديه و سمته ، فافهم هذا و أمزج طلب الفقه و الحديث بمطالعة سير السلف و الزهاد في الدنيا ، ليكون سبباً لرقة قلبك .
و قد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره و آدابه . فجمعت كتاباً في أخبار الحسن ، و كتاباً في أخبار سفيان الثوري ، و إبراهيم بن أدهم ، و بشر الحافي ، و أحمد بن حنبل ، و معروف ، و غيرهم من العلماء و الزهاد ، و الله الموفق للمقصود . و لا يصلح العمل مع قلة العلم .
فهما في ضرب المثل كسائق و قائد ، و النفس بينهما حرون ، و مع جد السائق و القائد ينقطع المنزل ، و نعوذ بالله من الفتور .
· فصل : نورالقلب يلبه المريد
ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب ، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة ، و تخايل لي نوع طرد عن الباب ، و بعد ، و ظلمة تكاثفت .
فقالت نفسي : ما هذا ؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء ؟ فقلت لها : يا نفس السوء جوابك من وجهين :
أحدهما : إنك تأولت ما لا تعتقدين ، فلو استفتيت لم تفت بما فعلت .
قالت : لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته .
قلت : إلا أن إعتقادك ما ترضيه لغيرك في الفتوى .
و الثاني : أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك ، لأنه لولا نور في قلبك ما أثر هذا عندك .
قالت : فلقد إستوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب .
قلت : فاعزمي على الترك ، و قدري ما تركت جائزاً بالإجماع ، و عدي هجره ورعاً ، و قد سلمت .
· فصل : كم من محتقر احتيج إليه
مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما إستطاع ، فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته .
و إن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوماً ما كما يحتاج إلى عويد منبوذ لا يلتفت إليه . لكن كم من محتقر احتيج إليه . فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقعت الحاجة في دفع ضر .
و لقد إحتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم .
و إعلم أن المظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم . لأن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً . و قد يلوح منه مضرب خفي ، و إن إجتهد المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو .
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في ألا يظاهر بالعداوة أحداً لما بينت من وقوع إحتياج الخلق بعضهم إلى بعض ، و إقدار بعضهم على ضرر بعض .
و هذا فصل مفيد تبين فائدته للإنسان مع تقلب الزمان .
· فصل : في القناعة سلامة الدنيا و الدين
رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة و تنسى كيف حصلت و ما يتضمنها من الأفات .
و بيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة و سلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوية ، إن لم يقصد هو الشر حصل من عماله ، ثم هو خائف منزعج في كل أموره ، حذر من عدو أن يسيئه ، فلق ممن هو فوقه أن يعزله ، و من نظيره أن يكيده ، ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين ، و في حساب أموالهم و تنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة ، و إن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة .
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ، و منها ، و عليها .
و إن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علة السن و ذهاب زمان اللذة .
كما حكى أن رجلاً من كان حال شبيبة فقيراً ، كما كبر استغنى و ملك أموالاً و اشترى عبيداً من الترك و غيرهم ، و جواري من الروم ، فقال هذه الأبيات في شرح حاله:
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ملكته بعد أن جاوزت سبعيناً
تطوف بي من الأتراك أغزلة مثل الغصون على كثبان يبريناً
و خرد من بنات الروم رائعة يحكين بالحسن حور الجنة العيناً
يغمزنني بأساريع منعمة تكاد تعقد من أطرفها ليناً ‌
‌‌‌ يردن إحياء ميت لا حراك به و كيف يحيين ميتاً صار مدفوناً
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
و هذه الحالة هي الغالية فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند قرب رحيله ، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير أو حسن الإلتزاز و الإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو إلا أن يبلغ ، فإذا بلغ كانت همته في المنكوح كيفما اتفق ، و إن تزوج جاء الأولاد فمنعوه اللذة و انكسر في نسفه و افتقر إلى الكسب عليهم ، فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين و خطه الشيب فانفرق من نفسه لعمله أن النساء يتفرقن منه ، كما قال ابن المعتز بالله :
لقد أتعبت نفسي في مشيبي فكيف تحبي الغيد الكعاب
و هكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات ، إن و جدهن ، لم يجد مالاً يبلغ به المراد ، و إن اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه ، و إذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى و أعظم مبغض .
ثم إن صاحب المال خائف على ماله ، محاسب لمعامليه ، مذموم إن أسرف و إن فتر .
ولده يرصد موته ، و جاريته قد لا ترضى بشخصه ، و هو مشغول بحفظ حواشيه ، فقد مضى زمانه في محن ، و اللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها ، ثم في القيامة يحشر الأمير و التاجر خزايا ، إلا من عصم الله .
فإياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك ، و لو قد بلغته كرهته ، ثم في ضمنه من محن الدنيا و الآخرة ما لا يوصف . فعليك بالقناعة مهما أمكن ، ففيها سلامة الدنيا و الدين .
و قد قيل لبعض الزهاد و عنده خبز يابس : كيف تشتهي هذا ؟
فقال : أتركه حتى أشتهيه .
· فصل : لن يصيبا إلا ما كتب الله لنا
و قع بيني و بين أرباب الولايات نوع معاداة لأجل المذهب . فإني كنت في مجلس التذكير أنظر أن القرآن كلام الله و أنه قديم ، و أقدم من أبا بكر .
و اتفق في أرباب الولايات من يميل إلى مذهب الأشعري ، و فيهم من يميل إلى مذهب الروافض ، و تمالؤا علي في الباطن .
فقلت يوماً في مناجاتي للحق سبحانه و تعالى : سيدي نواصي الكل بيدك ، و ما فيهم من يقدر لي على ضر ، إلا أن تجريه على يده ، و أنت قلت سبحانك وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله .
و طيبت قلب المبتلي بقولك : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .
فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني كان خوفي على ما تصرفه أكثر من خوفي على نفسي ، لئلا يقال : لو كان على حق ما خذل .
و إن نظرت إلى تفصيري و ذنوبي فإني مستحق للخذلان ، غير أني أعيش بما نصرته من السنة ، فأدخلني في خفارته .
و قد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك ، فإن لم تحفظني بي فاحفظني بهم .
سيدي أنصرني على من عاداني . فإنهم لا يعرفونك كما ينبغي ، و هم معرضون عنك على كل حال ، أنا ـ على تقصيري ـ إليك أنسب .
· فصل : لا تكلف نفسك ما لا تطيق
روي عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد و عرقه يسيل ، فجاز بعض العقلاء فقال له : يا أحمق هذا تقاوي على الله تعالى . . . ! !
و ما أحسن ما قال هذا ! فإنه ما وضع التكليف إلا على خلاف الأغراض و قد يحرج صاحبه إلى أن يعجز عن الصبر ، فالجاهل الأحمق من تقاوى أو من يسأل البلاء كما قال ذلك الأبله : فكيف ما شئت فإختبرني .
· فصل : إسألوا الله العافية
و السعيد من ذل لله و سأل العافية ، فإنه لا يوهب العافية على الإطلاق ، إذ لا بد من بلاء ، و لا يزال العاقل يسأل العافية ليتغلب على جمهور أحواله ، فيقرب الصبر على يسير البلاء .
و في الجملة ينبغي للإنسان أن يعلم إنه لا سبي إلى محبوباته خالصة ، ففي كل جرعة غصص ، و في كل لقمة شجأ :
و كم من يعشق الدنيا قديماً و لكن لا سبيل إلى الوصال
و على الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار ، و قل أن تجري الأقدار إلا على خلاف مراد النفس .
فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر ، و تسهيل الأمر ، ليذهب زمان البلاء سالماً من شكوى ، ثم يستغيث بالله تعالى سائلاً العافية .
فأما المتجلد فما عرف الله قط ، نعوذ بالله من الجهل به ، و نسأله عرفانه ، إنه كريم مجيب .
· فصل : من يطع الرسول فقد أطاع الله
الجادة السليمة ، و الطريق القومية ، الإقتداء بصاحب الشرع . و البذار إلى الإستنان به ، فهو الكامل الذي لا نقص فيه ، فإن خلقاً كثيراً إنحرفوا إلى جادة الزهد ، و حملوا أنفسهم فوق الجهد ، فأقاموا في أواخر العمر ، و البدن قد نهك ، و فانت أمور مهمة من العلم و غيره .
و إن أقواماً إنحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه ، فأفاقوا في أواخر قدم ، و قد فاتهم العمل به .
فطريق المصطفى صلى الله عليه و سلم العلم و العمل ، و التلطف بالبدن .
ما أوصى عبد الله بن عمر ، عمر بن العاصي و قال له: إن لنفسك عليك حقاً ، و لزوجك عليك حقاً . فهذه هي الطريق الوسطى ، و القول الفصل .
فأما اليبس المجرد فكم فوت من علم ، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل .
فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق ، و العابد جاهل بها فيمشي العابد من الفجر إلى العصر ، و يقوم العالم قبيل العصر فيلتقيان و قد سبق العالم فضل شوطه .
فإن قال قائل : بين لي هذا ؟
قلت : صورة التعبد خدمة لله تعالى ، و ذل له و ربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة ، لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود الكرامة على يده ، و أنه مستحق تقبيل يده ، أو أنه خير من كثير من الناس و ذلك كله لقلة العلم ، و أعني بالعلم فهم أصول العلم ، لا كثرة الرواية و مطالعة مسائل الخلاف .
فإذا طالع العالم الأصولي ، سبق هذا العابد بحسن خلق ، و مداراة لناس ، و تواضعه في نفسه ، و إرشاده الخلق إلى الله تعالى ، فيعسر هذا على العابد ، و هو في ليل جهله بالحال راقد .
ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف ، فحبس زوجته عن مطلوبها و لم يطلقها ، و صار كالتي حبست الهرة فلا هي أطعمتها و لا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض .
و من تأمل حالة الرسول صلى الله عليه و سلم ، رأى كاملاً من الخلق يعطي كل ذي حق حقه .
فتارة يمزح ، و تارة يضحك ، و يداعب الأطفال ، و يسمع الشعر ، و يتكلم بالمعاريض ، و يحسن معاشرة النساء ، و يأكل ما قدر عليه و أتيح له ، و إن كان لذيذاً كالعسل . و يستعذب له الماء ، و يفرش له في الظل ، و لم ينكر ذلك ، و لم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة و المتزهدين ، من منع النفس شهواتها على الإطلاق .
فقد كان يأكل البطيخ بالرطب ، و يقبل ، و يمص اللسان ، و يطلب المستحسنات .
فأما أكل خبز الشعير و وزن المأكول ، و تجفيف البدن ، و هجر كل مشتهي ، فإنه تعذيب للنفس ، و هدم للبدن . لا يقتضيه عقل ، و لا يمدحه شرع . و إنما اقتنع أقوام بالقليل ، لأسباب مثل أن حديث شبهة فتقللوا أو إختلط طعام بطعام فتورعوا .
ثم كان النبي صلى الله عليه و سلم يوفي العبادة حقها بقيام الليل و الاجتهاد في الذكر .
فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق ، و بشرعته التي لا شوب فيها . و دع حديث فلان و فلان من الزهاد . و احمل أمرهم على أحسن محمل ، و أقم لهم الأعذار مهما قدرت . فإن لم تجد عذراً فهم محجوبون بفعله ، إذ هو قدوة الخلق ، و سيد العقلاء . و هل فسد الناس إلا بالإنحراف عن الشريعة ؟
و لقد حدثت آفات من المتصوفة و المتزهدين . خرقوا بها شبكة الشريعة و عبروا . فمنهم من يدعي المحبة و الشوق ، و لا يعرف المحبوب .
فتراه يصيح و يستغيث و يمزق ثيابه و يخرج عن حد الشرع بدعواه و مضمونها .
منهم من حمل على نفسه بالجوع و الصوم الدائم ، و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه قال لعبد الله بن عمرو : صم يوماً و أفطر يوماً ، فقال أريد أفضل من ذلك ، فقال لا أفضل .
و فيهم من خرج إلى السياحة ، فأفأت نفسه الجماعة . و فيهم من دفن كتب العلم و قد يصلي و يصوم ، و لم يعلم أن دفنها خطأ قبيح ، لأن النفس تغفل و تحتاج إلى التذكير في كل وقت ، و نعم المذكر كتب العلم .
و إنما دخل إبليس على قوم منهم من حيث قدر ، و كان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح ، ليسير العابد في الظلمة .
و ما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال : أريد أن أمضي إلى جبل الأكام . فقال هذه ـ هوكلة ـ و هذه كلمة عامية معناها حب البطالة .
و على الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش . قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس ، و هي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة ، و اتباع جنازة ، و عيادة مريض .
إلا أنها حالة الجنباء ، فأما الشجعان فهم يتعلمون و يعلمون . و هذه مقامات الأنبياء عليهم السلام .
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة و بين الفقيه ؟
بالله لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة .
على أنه فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلاة و الصوم فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة .
و العمل بالبدن سعى الآلات الظاهرة . و العلم سعي الآلات الباطنة من العقل و الفكر و الفهم ، فلذلك كان أشرف .
فإن قلت : كيف تذم المعتزلين للشر و تنفي عنهم التعبد ؟
قلت : ما أذمهم بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي و الآفات التي سببها قلة العلم . و حملوا على أنفسهم التي لبست لهم . و عن غير إذن الأمر ما لم يجز .
حتى إن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة . و حتى قال بعض الحمقى : دخلت الحمام فوجدت غفلة . فآليت ألا أخرج حتى أسبح كذا و كذا تسبيحة ، فطال الأمر فمرضت .
و هذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له . و من المتصوفة و الزهاد من قنع بصورة اللباس ، و ركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب .
طهر الله الأرض منهم ، و أعان العلماء عليهم .
فإن أكثر الحمقى معهم ، فلو أنكر عالم على أحدهم ، مال العوام على العالم بقوة الجهل .
و لقد رأيت كثيراً من المتعبدين و هو مقام العجائز يسبح تسبيحات لا يجوز النطق بها ، و يفعل في صلاته ما لم ترد به السنة .
و لقد دخلت يوماً على بعض من كان يتعبد ، و قد أقام إماماً و هو خلفه في جماعة يصلي بهم صلاة الضحى و يجهر ، غفلت لهم : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صلاة النهار عجماء ، فغضب ذلك الزاهد و قال : كم ينكر هذا علينا !
و قد دخل فلان و أنكر فلان و أنكر ، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام .
فقلت : واعجباً و من قال لكم لا تناموا ، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو و أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : قم و نم ، و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام ، و لعله ما مضت عليه ليلة إلا و نام فيها .
و لقد شاهدت رجلاً كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور و هو يمشي في الجامع مشياً كثيراً دائماً . فسألت ما السبب في هذا المشي ؟ فقيل لي : حتى لا ينام .
و هذا كلها حماقات أوجبتها قلة العلم ، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم إختلط العقل ، و فات المراد من التعبد لبعد الفهم .
و لقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلاً إسمه كثير دخل عليهم الجامع فقال : إني عاهدت الله على أمر و نقضته ، و قد جعلت تقوبتي لنفسي ألا آكل شيئاً أربعين يوماً ، قال : فمكث منها عشرة أيام قريب الحال يصلي في جماعة ، ثم في العشر الثاني بان ضعفه و كان يداري الأمر ، ثم صار في العشر الثالث يصلي قاعداً ، ثم استطرح في العشر الرابع ، فلم تمت الأربعون جيء بنقوع فشربه ، فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلاة ، ثم مات بعد أيام .
فقلت : يا لله العجب ، أنظروا ما فعل الجهل بأهله ، ظاهر هذا أنه في النار ، إلا أن يعفى عنه ، و لو فهم العلم و سأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل و أن ما فعله بنفسه حرام ، و لكن من أعظم الجهل إستبداد الإنسان بعلمه ، و كل هذه الحوادث نشأت قليلاً قليلاً حتى تمكنت .
فأما الشرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيء . و ما كانت الصحابة تفعل شيئاً من هذه الأشياء و قد كانوا يؤثرون و يأكلون دون الشبع . و يصبرون إذا لم يجدوا . فمن أراد الإقتداء فعليه برسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ففي ذلك الشفاء و المطلوب .
و لا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع إسمه . فيقول : قال : أبو يزيد و قال الثوري . فإن المقلد أعمى . و كم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا . فمن هذا المشار إليه طلب الأفضل و الأعلى . و الله الموفق .
· فصل : لكل بدعة أصل
تأملت الدخل الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم و العمل ، فرأيته من طريقين قد تقدما هذا الدين و أنس الناس بهما .
فأما أصل الدخل في العلم و الاعتقاد فمن الفلسفة .
و هو أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الإنعكاف على الكتاب و السنة ، فأوغلوا في النظر في مذاهب أهل الفلسفة وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب رديئة أفسدوا بها العقائد .
و أما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية .
فإن خلقاً من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف ، و لم ينظروا في سيرة نبينا صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و سمعوا ذم الدنيا و ما فهموا المقصود ، فاجتمع لهم الإعراض عن علم شرعنا مع سوء الفهم للمقصود ، فحدثت منهم بدع قبيحة .
فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالإعراض عن العلم ، فدفنوا كتبهم و غسلوها و ألزمهم زاوية التعبد فيما زعم ، و أظهر لهم من الخزعبلات ما أوجب إقبال العوام عليهم فجعل إلههم هواهم ، و لو علموا أنهم منذ دفنوا كتبهم و فارقوا العلم انطفأ مصباحهم ما فعلوا ، لكن إبليس كان دقيق المكر يوم جعل علمهم في دفين تحت الأرض .
و بالعلم يعلم فساد الطريقين ، و يهتدي إلى الأصوب .
نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا إياه فإنه النور في الظلم ، و الأنيس في الوحدة ، و الوزير عند الحادثة .
· فصل : و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
أعوذ با الله من صحبة البطالين ، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد إعتاده الناس من كثرة الزيارة ، و يسمون ذلك الترددخدمة ، و يطلبون الجلوس و يجرون فيه أحاديث الناس و ما لا يعني ، و ما يتخلله غيبة .
و هذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس ، و ربما طلبه المزور و تشوق إليه ، و إستوحش من الوحدة ، و خصوصاً في أيام التهاني و الأعياد . فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ، و لا يقتصرون على الهناء و السلام ، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان .
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء ، و الواجب إنتهاؤه بفعل الخير ، كرهت ذلك و بقيت مهم بين أمرين :
إن أنكرت عليهم و قعت وحشة لموضع قطع المألوف ، و إن تقبلته منهم ضاع الزمان ، فصرت أدافع اللقاء جهدي ، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق ، ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً . فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد و بري القلام ، و حزم الدفاتر ، فإن هذه الأشياء لا بد منها . و لا تحتاج إلى فكر و حضور قلب ، فأرصدتها لأوقات زيارتهم يضيع شيء من و قتي .
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا أوقات العمر ، و ان يوفقنا لإغتنامه .
و لقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة ، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله ، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس ، و كم تمر به من آفة و منكر .
و منهم من يخلو بلعب الشطرنج ، و منهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين و الغلاء و الرخص ، إلى غير ذلك .
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر و معرفة قدر أوقات العافية إلا من و فقه و ألهمه إغتنام ذلك و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
· فصل : اغتنم شبابك قبل هرمك
رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة .
لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين و أشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما خلقوا بعد .
و دليل هذا أن إنتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من إنتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم .
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد ، فإنه ليس كل من صنف صنف .
و ليس المقصود جمع شيء كيف كان ، و إنما هي أسرار يطلع الله عز وجل عليها من شاء من عباده و يوفقه لكشفها ، فيجمع مافرق ، أو يرتب ما شتت ، أو يشرح ما أهمل ، هذا هو التصنيف المفيد .
و ينبغي إغتنام التصنيف في وسط العمر ، لأن أوائل العمر زمن الطلب ، و آخره كلال الحواس .
و ربما خان الفهم و العقل من قدر عمره ، و إنما يكون التقدير على العادات الغالبة ، لأنه لا يعلم الغيب فيكون زمان الطلب و الحظ و التشاغل إلى الأربعين ، ثم يبتدىء بعد الأربعين بالتصانيف و التعليم .
هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع و الحفظ ، و أعين على تحصيل المطالب .
فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب ، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان ، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة .
ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف و التعليم إلى رأس الستين . ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم و يسمع الحديث و العلم و يعلل التصانيف إلى أن يقع مهم إلى رأس السبعين ، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة و التهيؤ للرحيل ، فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه ، أو تصنيف يفتقر إليه ، فذلك أشرف العدد للآخرة .
و لتكن همته في تنظيف نفسه ، و تهذيب خلاله ، و المبالغة في إستدراك زلاته ، فإن إختطف في خلال ما ذكرنا ، فنية المؤمن خير من عمله .
و إن بلغ إلى هذه المنازل ، فقد بينا ما يصلح لكل منزل .
و قد قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه و سلم فاليتخذ لنفسه كفناً ، و قد بلغ جماعة من العلماء سبعاًو سبعين سنة ، منهم أحمد بن حنبل فإنه بلغها فليعلم أنه على شفير القبر ، و أن كل يوم يأتي بعدها مستطرف .
فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله ، و تهيئه زاده ، و ليجعل الإستغفار حليفه ، و الذكر أليفه ، و ليدقق في محاسبة النفس و في بذل العلم ، أو مخالطة الخلق .
فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض .
و ليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله ، مثل بث علمه ، و إنفاق كتبه ، و شيء من ماله .
و بعد ، فمن تولاه الله عز وجل علمه ، و من أراده ألهمه .
فسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا و لا يتولى عنا إنه قريب مجيب .
· فصل : الانقياد للشرع لا إتباع العادات
رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع ، فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع !
فكم من رجل يوصف بالخير يبيع و يشتري ، فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح من غير تقليد لإمام ، أو عمل برخصة ، عادة من القوم ، و إستثقالاً للإستفتاء .
و نرى خلقاً يحافظون على صلاة الرغائب و يتوانون عن الفرائض .
و كثيراً من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس ، ثم يتصدقون على الفقراء .
و ربما توانو عن إخراج الزكاة . و تكاسلوا بإستعمال التأويلات فيها .
ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال .
و منهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه .
و منهم من يعلم أن أصل ماله حرام ، و يصعب عليه فراقه للعادة .
و فيهم من يخلف بالطلاق و يحنث ، و يرى الفراق صعباً .
فربما تأول ، و ربما تكاسل عن التأويل إتكالاً على عفو الله تعالى ، و وعداً من النفس بالتوبة .
و منهم من يرى أن إستعمال الشرع ربما كان سبباً في تضييق معاشه .
و قد ألف التفسح فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف و العادات في الجملة هي المهلكة .
و لقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة ، فاشتريت منه دكاناً و عقدت معه العقد .
فلما إفترقنا غدر بعد أيام . فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى .
فأحضرته فحلف باليمين الغموس إنه ما بعته ، فقلت ما تدور عليه السنة . و أخذ يبرطل لمن يحول بيني و بينه من الظلمة .
فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فلا يلتفت معها إلى قول فقيه ، يقول هذا ما قبض الثمن فكيف يصح البيع ؟ و آخر يقول : كيف يجوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه ؟ و آخر يقول : يجب عليك أن تقيله البيع .
فلما لم أقله أخذ هو و أقاربه يأخذون عرضي ، و رأى أنه يحامي عن ملكه ، ثم سعى بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني ، و يبرطل مالاً لخلق من الظلمة ، فبالغوا و سعوا . إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم .
ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم ، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم : لا تحكم له ، فوقف عن الحكم بعد ثبوت البنية عنده ، فرأيت من هذا الحاكم و من حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظاً لرياستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظاً لماله ، لجله و علم هؤلاء ، فينحل لي من الأمر أن العادات غلبت على الناس ، و إن الشرع أعرض عنه .
و إن وقعت موافقة للشرع فكما أتفق أو لأجل العادة .
فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد إستمرت . و يأخذ أعراض الناس و أموالهم عادة غالبة !! .
فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي و يحافظ على الصلاة . ثم لما خاف فوت غرضه ترك الشرع جانباً .
و كم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون و يطلبون العلم . غير أنهم لما خافوا على رياستهم أن تزول تركوا جانب الدين .
ثم إن الله تعالى نصرني عليه و تقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت عنده ، و دارت السنة فمات الشيخ على قل ، فنسأله عز وجل التوفيق للإنقياد لشرعه و مخالفة أهوائنا .
· فصل : فضل عزلة العالم
ما أعرف للعالم قط لذة و لا عزاً و لا شرفاً و لا راحة و لا سلامة أفضل من العزلة ، فإنه ينال بها سلامة بدنه و دينه و جاهه عند الله عز وجل و عند الخلق ، لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم ، و لا يعظم عندهم قد المخالط لهم ، و لهذا عظم قدر الخلفاء لإحتجابهم .
و إذا رأى العوام أحد العلماء مترخصاً في أمر مباح هان عندهم ، فالواجب عليه صيانه علمه و إقامة قدر العلم عندهم .
فقد قال بعض السلف : كنا نمزح و نضحك ، فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك .
و قال سفيان الثوري : تعلموا هذا العلم و اكظموا عليه ، و لا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب .
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر .
و قد قال صلى الله عليه و سلم لعائشة : لو لا حدثنا قومك في الكفر لنقضت الكعبة و جعلت لها بابين .
و قال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب : [ رأيت الناس يكرهونهما فتركتهما ] .
و لا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء ، إنما هذه صيانة للعلم .
و بيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها قل عندهم و إن كان مباحاً ، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية .
فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظاً لهم ، و متى أراد مباحاً فليستتر به عنهم .
و هذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد قدم الشام راكباً على حمار و رجلاه من جانب ، فقال : [ يا أمير المؤمنين يتلقاك عظماء الناس ، فما أحسن ما لاحظ ] .
إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال : [ إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العزة في غيره أذلكم ] .
و المعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال ، و إن كانت الصور تلاحظ .
فإن الإنسان يخلو في بيته عرياناً ، فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين و عمامة و رداء .
و مثل هذا لا يكون تصنعاً و لا ينسب إلى كبر .
و قد كان مالك بن أنس يغتسل و يتطيب و يقعد للحديث ، و لا تلتفت يا هذا إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين ، فإنه العزلة أصون للعالم و العلم ، و ما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه .
و قد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة ، و عن قول هذا سكتوا عنه ، و هذا فعل الحازم .
فإن أردت اللذة و الراحة فعليك أيها العالم بقعر بيتك ، و كن معتزلاً عن أهلك يطب لك عيشك ، و إجعل للقاء الأهل وقتاً ، فإذا عرفوه تصنعوا للقائد ، فكانت المعاشرة بذلك أجود .
و ليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه ، وتحادث سطور كتبك ، و تجري في حلبات فكرك .
و إحيرس من لقاء الخلق و خصوصاً العوام .
و اجتهد في كسب يعفك عن الطمع ، فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا .
و قد قيل لا بن المبارك : ما لك لا تجالسنا ؟ فقال : أنا أذهب فأجالس الصحابة و التابعين و أشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه .
و متى رزق العالم الغنى عن الناس و الخلوة ، فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذة .
و إن رزق فهماً يرتقي إلى معاملة الحق و مناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات .
نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكمال ، و توفيقاً لصالح الأعمال ، فالسكون طريق الحق أفراد .
· فصل : حديث ابن الجوزي عن نفسه
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم ، فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ .
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب ، و منهم من فرط إكتساب العلم ، و منهم من أكثر من الإستمتاع باللذات .
فكلهم نادم في حاله الكبر حين فوات الإستدراك لذنوب سلفت أو قوى ضعفت ، أو فضيلة فاتت ، فيمضي زمان الكبر في حسرات .
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال : و اأسفاً على ما جنيت . و إن لم يكن له إفاقة صار متأسفاً على فوات ما كان يلتذ به .
فإما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس ، و يلتذ بتصنيف ما جمع ، و لا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم .
هذا مع و جود لذاته في الطلب الذي كان يتأمل به إدراك المطلوب .
و ربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها ،كما قال الشاعر :
اهتز عند تمني وصلها طرباً و رب أمنية أحلى من الظفر
و لقد تاملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذبين أنفقوا أعمالهم في اكتساب الدنيا ، و أنفقت زمن الصبوة و الشباب في طلب العلم ، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه .
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم ، و جاهي بين الناس أعلى من جاههم. و ما نلته من معرفة العلم لا يقاوم .
فقال لي إبليس : و نسيت تعبك و سهرك ؟
فقلت له :أيها الجاهل ، تقطيع الأيدي لا و قع له عند رؤية يوسف . و ما طالت طريق أدت إلى صديق :
جرى الله المسير إليه خيراً و إن ترك المطايا كالمزاد
و لقدكنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب و أرجو .
كنت زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث ، و أقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء .
فكلما أكلت لقمة شربت عليها ، و عين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم .
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم و أحواله و آدابه ، و أحوا ل أصحابه و تابعيهم ، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود .
و أثمر ذكل عندي من المعاملةما لا يدري بالعلم ، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة و وقت الغلمة و العزبة قدرتي علىأشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال ، و لم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله عز وجل .
و لولا خطايا لا يخلو منها البشر ، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب .
غير أنه عز وجل صانني ، و علمني ، و أطلعني من أسرار العلم على معرفة ، و إيشار الخلوة به ، حتى إنه لو حضر معي معروف و بشر لرأيتهما زحمة .
ثم عاد فغمسني في التقصير و التفريط حتى رأيت أقل الناس خيراً مني .
و تارة يوقظني لقيام الليل و لذة مناجاتة ، و تارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني .
و لولا بشارة العلم بأن هذانوع تهذيب و تأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل ، و إما إلى اليأس عند البطالة .
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه .
و قد يغلب الرجاء بقوة أسبابه ، لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلاً فإن أبي مات وأنا لا أعقل ، و الأم لم تلتفت إلي . فركز في طبعي حب العلم .
و ما يوقعني علىالمهم فالمهم ، و يحملني إلى من يحملني على الأصوب ، حتى قوم أمري .
و كم قد قصدني عدو فصده عني . وإذ رأيته قد نصرني و بصرني و دافع عني ، و وهب لي ، قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي .
و لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف . و أسلم على يدي أكثر من مائتي نفس .
و كم سألت عين مختبر بوعظي لم تكن تسيل . و يحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام .
و ربما لا حت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري و زللي .
و لقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه ، أو دمعت عينيه . فقلت لنفسي : كيف بك إن نجونا و هلكت : فصحت بلسان وجدي : إلهي و سيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي ، صيانة لكرمك لا لأجل ، لئلا يقولوا عذب من دل عليه .
إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه و سلم : إقتل ابن أبي المنافق، فقال : لا يتحدث الناس أن محمد اً يقتل أصحابه .
إلهي فأحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك .
حاشاك و الله يارب من تكدير الصافي .
لا تبر عوداً أنت ريشته حاشا لباني الجود أن ينقضا
لا تعطش الزرع الذي نبته بصوب إنعامك قد روضا
· فصل : إختر ما تميل النفس إليه و لا يرقى لمقام العشق
من الأمور التي تخفي على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده إمرأة أوجارية يهواها هوى شديداً أنه لا يلتذ في الدنيا . فإذا صور محبوباً مملوكاً تخايل لذة عظيمة . و إذا كان عنده من لا يميل إليه إعتقدنفسه محروماً .
و هذا أمر شديد الخفاء . فينبغي أن يوضح . و هو أن المملوك مملول .
و متى قدر الإنسان على ما يشتبه مله و مال إلى غيره .
تارة لبيان عيوبه التي تكشفها المخالطة فإنه قد قال الحكماء : العشق يعمي عن عيوب المحبوب .
و تارة لمكان القدر عليه ، و النفس لا تزال تتطلع إلى ما لا تقدر عليه .
ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدر فإنها قد تكون و لكن ناقصة بمقدار القدرة ، و إنما بقوتها تجني المحبوب . فيكون تجنبه كالإمتناع ، او إمتناعه من الموافقة .
فإذا صفا فلا بد من اكدار ، منها الحذر عليه ، و منها قلة ميله إلى هذا العاشق . و ربما يتكلف القرب منه ، و يعلم الإنسان بقلة ميل محبوبه إليه فينغص بل يبغض .
فإن خاف منه خيانة إحتياج إلى حراسة فقويت النغص .
و أصلح المقامات التوسط ، و هو إختيار ما تميل النفس إليه و لا يرتقي إلى مقام العشق ، فإن العاشق في عذاب . و إنما يتخايل الفارغ من العشق إلتذاذ العاشق و ليس كذلك . فإنه كما قيل :
و ما في الأرض أشقى من محب و إن وجد الهوى عذب المذاق
تراه باكياً في كل و قت مخافة فرقة أو لا إشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم و يبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عن التداني و تسخن عينه عند الفراق
· فصل : نية المؤمن ابلغ من عمله
و ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته . فإن من علت همته يختار المعالي .
و ربما لا يساعده الزمان ، وقد تضعف الآلة ، فيبقى في عذاب .
و إني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنا به في عذاب و لا أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل ، و العاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل .
و لقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم ، فتأملتها بها في فن واحد . و لا يبالون بالنقص فيما هو اهم ، قال الرضي :
و لكل جسم في النحول بلية و بلاء جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة .
و كان ابو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام ، فقيل له في ذلك فقال : ذهن صاف ، و هم بعيد ، و نفس تتوق إلى معالي الأمور ، مع عيش كعيش الهمج الرعاع .
قيل : فما الذي يبرد غليلك ؟ قال : الظفر بالملك .
قيل : فاطلبه ، قال لا يطلب إلا بالأهوال .
قيل : فاركب الأهوال . قال : العقل مانع .
قيل : فما تصنع ؟ قال : سأجعل من عقلي جهلاً . و أحاول به خدراً لا ينال إلا بالجهل .
و أدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به . فإن الخمول أخو العدم .
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات و هو جانب الآخرة ، و انتصب في طلب الولايات . فكم فتك و قتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا .
ثم لم يتنعم في ذكل غير ثمان سنين .
ثم اغتيل ، و نسى تدبير العقل ، فقتل و مضى إلى الآخرة على أقبح حال .
و كان المتنبي يقول :
و في الناس من يرضى بميسور عيشه و مركوبه رجلاه و الثوب جلده
و لكن قلباً ـ بين جنبي ـ ماله مدى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يكسي شفوفاً تربه فيختار أن يكسي دروعاً تهده
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب .
و نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً . و ذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه ، لأني أحب نيل كل العلوم على إختلاف فنونها .
و أريد إستقصاء كل فن ، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه .
فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره ، فلا أعد همته تامة .
مثل المحدث فاته الفقه . و الفقيه فاته علم الحديث . فلا أرضى بنقصان من العلوم إلا حادثاً عن نقص الهمة .
ثم أني أروم نهاية العمل بالعلم ، فأتوق إلى ورع بشر ، و زهادة معروف و هذا مع مطالعة التصانيف و إفادة الخلف و معاشرتهم بعيد .
ثم إني أروم الغنى عن الخلق ، و أستشرف الإفضال عليهم و الإشتغال بالعلم مانع من الكسب . و قبول المنن مما تأباه الهمة العالية .
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد ، كما أتوق إلى تحقيق التصاميم ، لبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف . و في طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد .
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات ، و في ذلك إمتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة .
و كذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم و المشارب ، فإنه متعود للترفه و اللطف ، و في قلة المال مانع ، و كل ذلك جمع بين أضداد .
فأين أنا و ما و صفته من حال من كانت غاية همته الدنيا ؟ و أنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب . و لا أن يؤثر في علمي و لا في عملي .
فواقلقي من طلب قيام الليل ، و تحقيق الورع مع إعادة العلم ، و شغل القلب بالتصانيف ، و تحصيل ما يلائم البدن من المطاعم .
و وا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس و تعليمهم .
و يا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة .
غير أني قد إستسلمت لتعذيبي و لعل تهذيبي في تعذيبي ، لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل .
و ربما كان الحيرة في الطلب دليلاً إلى المقصود ، و ها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة .
و إن بلغ همي مراده . . . و إلا فنية المؤمن أبلغ من عمله .
· فصل : مغالطة النفس ليتم العيش
لما سطرت هذا الفصل المتقدم ، و رأيت إدكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه .
و هو أنه لا بد لها من التلطف ، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف . فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن .
و إذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها ، و أخذ الراحة للجد جد ، و غوص السابح في طلب الدر صعود . و دوام السير يحسر الإبل ، و المفازة صعبة .
و من أراد أن يرى التلطف بالنفس ، فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم ، فإنه كان يتلطف بنفسه ، و يمازح ، و يخالط النساء ، و يقبل و يمص اللسان ، و يختار المستحسنات ، و يستعذب له الماء و يختار الماء البارد ، و الوفق من المطاعم ، كلحم الظهر و الذراع و الحلوى ، و هذا كله رفق بالناقة في طريق السير .
فأما من جرد عليها السيوط فإنه يوشك ألا يقطع الطريق .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ، و لا ظهراً ابقى .
و اعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عوراه ، فإن فكر المتيقظ قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة ، و قبل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ، و لو أخرجها الإنسان لفظها .
و لو فكرت في قرب الموت و ما يجري عليه بعده ، لبغض عاجل لذته .
فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشة كما قال لبيد :
‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‍‍‍‌‌‍‌‌‌‌‌‌‌‌‍‌‌‌‌‌‌‌ فأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
و قال البستي :
أفد طبعك المكدود بالهم راحة تجم و علله بشيء من المزح
و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح
و قال أبو علي بن الشبل :
و إذا هممت فناج نفسك بالمنى و عداً ، فخيرات الجنان عدات
و اجعل رجاءك دون بأسك جنة حتى تزول بهمك الأوقات
و اسر عن الجلساء بثك ، إنما جلساؤك الحساد و الشمات
و دع التوقع للحوادث إنه للحى ـ من قبل الممات ـ ممات
فالهم ليس له ثبات مثل ما في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها لم تصف للمتيقظين حياة
و قال أيضاً :
بحفظ الجسم تبقى النفس فيه بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممض فلا تمتها و لا تمدد لها طول الرجاء
و عدها في شدائدها رخاء و ذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا و هذا و بالتركيب منفعة الدواء
و قد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره .
و إن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك . و لكنه نوع مخادعة للنفس .
و ما زالت النفوس ترى الظاهر . و إنما الفكر و العقل مع الغائب . و لا بد من مغالطة تجري ليتم العيش .
و لو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ، ما كتب العلم و لا صنف .
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه ، فإن الأول في مقام العزيمة ، و هذا في مكان الرخصة .
و لا بد للتعب من راحة و إعانة ، و الله عز وجل معك على قدر صدق الطلب ، و قوة اللجأ ، و خلع الحول و القوة ، و هو الموفق .
· فصل : بين الإسراف و الإعتدال
قوام الآدمي بشيئين : الحرارة ، و الرطوبة .
و من شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة و تفنيها ، فلأدمي محتاج إلى تحصيل خلف المتحلل .
فأبدان النشئ تغتدي بأكثر مما يتحلل منها .
و الأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها ، و الأبدان التي قد أخذت في الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به ، فينبغي للناشئ البالغ أن يتحفظ في النكاح ، لأنه يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر .
و أما المتوسط و الواقف فينبغي أن يحذر فضول الجماع ، فإن حصل له مثل ما يخرج منه فأسرف ، فاللازم أخذ من الحاصل ، و يوشك أن يسرع النفاد .
و أما الشيخ فترك النكاح كاللازم له ، خصوصاً إذا زاد علو السن ، لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبداً .
ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون الفاضل مدخراً لوقت العجز .
و ليحذر السرف ، فإن العدل هو الأصلح .
ثم ينظر الزوجة ، و المطلوب منها شيئان : وجود الولد ، و تدبير المنزل ، فإذا كانت مبذرة فعيب لا يحتمل ، فإن إنضمت صفة العقر ، فلا وجه للإمساك . إلا أن تكون مستحسنة الصورة ، فإن ضم إليها عقل و عفاف ، حسن الإمساك .
و إن كان مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم .
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة ، فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده .
و لينظر المالك في طبع المملوك ، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه ، فإنه يربح محبته .
و منهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره و ليعرض عن الذنوب .
فإن لم يمكن عاتب بلطف ، و ليحذر العقوبة ما أمكن ، و ليجعل للماليك زمن راحة .
و العجب ممن يعنى بدابته و ينسى مداراة جاريته ، و أجود الممالك الصغار و كذلك الزوجات ، لأنهم متعودون خلق المشتري .
و ليحفظ نفسه بالهيبة من الانحراف مع الزوجة ، و لا يطلعها على ماله ، فإنها سفيهة تطلب كثرة الإنفاق . و أما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد . و متى كان الصبي ذا أنفة ـ حييا ـ رجي خيره .
و ليحمل على صحبة الأشراف و العلماء ، و ليحذر من مصاحبته الجهال و السفهاء ، فإن الطبع لص .
و ليحذر الصبي من الكذب غاية التحذير ، و من المخالطة للصبيان ، و ليوصه بزيادة البر للوالدين ، و ليحفظ من مخالطة النساء .
فإذا بلغ فليزوج بصبيه فينتفعان . هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا .
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن و الفقه و سماع الحديث .
و ليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات ، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة ، فإذا بلغ تشتت همته ، فليضرب تارة ، و يرشي أخرى ، ليبلغ و قد حصل محفوظات سنية .
و أول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً ، فإنه يثبت و يختلط باللحم و الدم ، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن ، ثم الفقه مذهباً و خلافاً ، و ما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن .
و ليحذر من عادات أصحاب الحديث . فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث ، فيذهب العمر و ما حصلوا فهم شيء .
فإذا بالغوا سناً طلبوا جواز فتوى ، أو قراءة جزء من القرآن ، فعادوا القهقرى .
لأنهم يحفظون بعد كبر السن ، فلا يحصل مقصودهم ، فالحفظ في الصبا للمهم من العلم ، أصل عظيم .
و قد رأينا كثيراً ممن تشاغل بالمسموعات و كتابة الأجزاء و رأى الحفظ صعباً ، فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك .
فلما احتاج إلى نفسه ، قعد يتحفظ على كبر ، فلم يحصل مقصوده .
فاليقظة لفهم ما ذكرت ، و انظر في الإخلاص ، فما ينفع شيء دونه .
· فصل : النظر في العاقبة
اشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس و سبعين ، و كلما جاء الشعير زاد السعر .
فتواقع الناس على إشتراء الطعام ، فاغتبط من يستعد كل سنة يزرع ما يقوته ، و فرح من بادر في أول نيسان إلى إشتراء الطعام فإنه يضاعف ثمنه .
و أخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان . و بان ذل نفوس كانت عزيزة .
فقلت : يا نفس خذي من هذه الحال إشارة ، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه ، و ليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة .
و كل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته ، فتنبهى .
فقد نبهت ناسياً الدنيا على أمر الآخرة .
و بادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن . فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد .
و مالك زرع ، و حاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار .
· فصل : الخوف من الله
تأملت حالة أزعجتني ، و هو أن الرجل قد يفعل مع إمرأته كل جميل و هي لا تحبه ، و كذا يفعل مع صديقه و الصديق يبغضه ، و قد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه و السلطان لا يؤثره ، فيبقى متحيراً يقول : ما حيلتي ؟
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه ، أتقرب إليه و هو لا يريدني . و ربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل .
و من هذا خاف الحسن فقال : أخاف أن يكون إطلع على بعض ذنوبي فقال : لا غفرت لك .
فليس إلا القلق و الخوف لعل سفينة الرجاء تسلم ـ يوم دخولها الشاطئ ـ من جرف .
· فصل : شبهة في عدد الأحاديث و الرد عليها
جرى بيني و بين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد : صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، سبع مائة ألف حديث .
فقلت له : إنما يعني به الطرق ، فقال : لا ، بل المتون ، فقلت : هذا بعيد التصور . ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاماً ينصر ما قال ذلك الشخص ، و هو أنه قال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل : كيف يجوز أن يقال : إن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث ، و قد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل و امرأة ، صحبوه نيفاً و عشرين سنة بمكة ثم بالمدينة ، حفظوا أقواله و أفعاله ، و نومه و يقظته و حركاته و غير ذلك ، سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة .
و احتج بقول أحمد : صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع مائة ألف حديث و كسر ، و أن إسحاق بن راهوية كان يملي سبعين ألف حديث حفظاً ، و أن أبا العباس بن عقدة قال : أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث .
قال ابن عقدة : و ظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث .
قلت : و لا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون و قد عجبت كيف خفى هذا على الحاكم و هو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل ، و قد طاف الدنيا مرتين حتى حصله و هو أربعون ألف حديث ، منها عشرة آلاف مكررة .
قال حنبل بن إسحاق : جمعنا أحمد بن حنبل أنا و صالح و عبد الله ، و قرأ علينا المسند ، و قال لنا : هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف و خمسين ألفاً .
فما إختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فارجعوا إليه ، فإن وجدتموه و إلا فليس بحجة .
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق . لأن السبع مائة الألف ، إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف أهملها ؟
فإن قيل : فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة . ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفاً .
و كيف ضاعت هذه الجملة ؟ و لم أهملت و قد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها و رمى الباقي ؟
و أصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع و الكذب .
و كذلك قال أبو داود : كتاب السنن من ستمائة ألف حديث . و لا يحسن أن يقال : إن الصحابة الذين رووها ماتوا و لم يحدثوا بها التابعين .
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث ، و ما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلاً .
و معلوم أنه لو جمع الصحيح و المحال الموضوع و كل منقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ما بلغ خمسين ألفاً ، فأين الباقي ؟
و لا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين ، فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم و دونوها و أخذوا بها ، و لا وجه لتركها .
ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق ، و إن ما توهمه الحاكم فاسد . و لو عرض هذا الإعتراض عليه ، و قيل له : الباقي ؟ لم يكن له جواب .
لكن الفهم عزيز . و الله المنعم بالتوفيق .
و مثل هذا تغفيل قوم قالوا : إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده ، و أن ما أخرج كالأنموذج ، و إلا فكان يطول .
و قد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسماعيلي . و حكى عن البخاري أنه قال : ما تركت من الصحيح ، أكثر .
و إنما يعني الطرق ، يدل على ما قلته ، أن الدار قطني ـ و هو سيد الحفاظ ـ جمع ما يلزم البخاري و مسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة ، و لو كان كما قالوا ، لأخرج مجلدات .
ثم قوله : [ ما يلزم البخاري ] دليل صريح على ما قلته ، لأنه من أخرج الأنموذج ، لا يلزمه شيء .
و كذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتاباً ، جمع فيه ما يلزم البخاري ، فذكر حديث الطائر ، فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال .
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة الحديث . و إنما وقع لقلة الفقه و الفهم .
إن البخاري و مسلم ، تركا أحاديث أقوام ثقات ، لأنهم خولفوا في الحديث ، فنقص الأكثرون من الحديث و زادوا .
و لو كان ثم فقه ، لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة . و تركوا أحاديث أقوام ، لأنهم افردوا بالرواية عن شخص . و معلوم أن إنفراد الثقة لا عيب فيه ، و تركوا من ذلك الغرائب ، و كل ذلك سوء فهم .
و لهذا لم يلتزم الفقهاء هذا ، و قالوا : الزيادة من الثقة مقبولة و لا يقبل القدح حتى يبين سببه .
و كل من يخالط الفقهاء و جهد مع المحدثين ، تأذى و ساء فهمه . فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين .
· فصل : في الفرق بين اللغة و النحو
اعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل . فالنفوس تعلمها ضرورة ، و أكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها .
فإنه وضع في النفس أن المصنوع لا بد له من صانع ، و أن المبنى لا بد له من بان ، و أن الاثنين أكثر من الواحد ، و أن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة . و مثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل .
و ألهم العرب النطق بالصواب من غير لحن ، فهم يفرقون بين المرفوع و المنصوب بأمارات في جبلتهم ، و إن عجزوا عن النطق بالعلة .
قال عثمان بن جني : سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن عساف العقيلي فقلت له : كيف تقول ضربت أخوك ؟ فقال : أقول ضربت أخاك .
فأدرته على الرفع فأبى و قال لا أقول أخوك أبداً .
قال فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع ، فقلت : أليس زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً ؟ فقال : إيش هذا ، اختلفت جهتها في الكلام .
و هذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام ، و إعطائهم إياه في كل موضوع حقه ، و إنه ليس إسترسالاً و لا ترخيماً .
قال عثمان : و اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، و النحو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب و غيره ، كالتثنية و الجمع و التحقير و التكسير و غير ذلك ، ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها .
· فصل : تعجيل اللذة يفوت الفضائل
تدبرت أحوال الأخيار و الأشرار فرأيت سبب صلاح الأخيار النظر ، و سبب فساد الأشرار ، إهمال النظر .
و ذاك أن العاقل ينظر فيعلم أنه لا بد من صانع ، و أن طاعته لازمة ، و يتأمل معجزات رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فيسلم قياده إلى الشرع .
ثم ينظر فيما يقربه إليه ، و يزلفه إليه .
فإذا شق عليه إعادة العلم ، تأمل ثمرته ، فسهل ذلك ، و إذا صعب عليه قيام الليل ، فكذلك .
و إذا رأى مشتهى ، تأمل عاقبته ، فعلم أن اللذة تفنى ، و العار و الإثم يبقيان ، فيسهل الترك .
و إذا إشتهى الإنتقام ممن يؤذيه ، و ذكر ثواب الصبر ، و ندم الغضبان على أفعاله في حال الغضب .
ثم لا يزال يتأمل سرعة ممر العمر فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل فينال مناه .
و أما الغافل ، فإنه لا يرى إلا الشيء الحاضر .
فمنهم من لم يتأمل في معنى المصنوع و إثبات الصانع ، فجحدوا و تركوا النظر ، و جحدوا الرسل و ما جاءوا و نظروا إلى العاجل ، و لم يتفكروا في مبدئه و منتهاه .
فليس عندهم من عرفان المطعم إلا الأكل .
و لو تأملوا كيف أنشئ ؟ و لماذا جعل حافظاً للأبدان ؟ لعرفوا حقائق الأمور .
و كذلك كل شهوة تعرض لا ينظرون في عاقبتها ، بل في عاجل لذتها . و كم قد جنت عليهم من وقوع حد ، و قطع يد و فضيحة .
فتعجيل اللذة يفوت الفضائل ، و يحصل الرذائل .
و سببه ، عدم النظر في العواقب ، و هذا شغل لعقل ، و ذاك المذموم ، شغل الهوى .
نسأل الله عز وجل ، يقظة ترينا العواقب ، و تكشف لنا الفضائل و المعائب إنه قادر على ذلك .
· فصل : الهمة تطلب الغايات
خلقت لي همة عالية تطلب الغايات .
فقلت السن و ما بلغت ما أملت ، فأخذت أسأل تطويل العمر و تقوية البدن ، و بلوغ الأمال .
فأنكرت علي العادات و قالت : ما جرت عادة بما تطلب .
فقلت إنما أطلب من قادر يخرق العادات .
و قد قيل لرجل : لنا حويجة ، فقال : اطلبوا لها رجيلاً .
و قيل لآخر : جئناك في حاجة لا ترزؤك ، فقال : هلا طلبتم لها سفاسف الناس ؟
فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا ، فلم لا نطمع في فضل كريم قادر ؟
و قد سألته هذا السؤال في ربيع الآخر ، من سنة خمس و سبعين ، فإن مد لي أجل ، و بلغت ما أملته ، نقلت هذا الفصل إلى ما بعد و بيضته ، و أخبرت ببلوغ آمالي .
و إن لم يتفق ذلك ، فسيدي أعلم بالمصالح ، فإنه لا يمنع بخلاً ، و لا حول إلا به .
· فصل : تزينوا للحق لا للخلق
ما أقل من يعمل لله تعالى خالصاً ، لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم و سفيان الثوري كان يقول : [ لا أعتد بما ظهر من عملي ] . و كانوا يسترون أنفسهم .
و اليوم ثياب القوم تشهرهم ، و قد كان أيوب السختياني يطول قميصه ، حتى يقع على قدميه ، و يقول : كانت الشهرة في التطويل ، و اليوم الشهرة في التقصير .
فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق و محو الجاه من قلوبهم بالعمل و إخلاص القصد و ستر الحال ، هو الذي رفع من رفع .
فقد كان أحمد بن حنبل يمشي حافياً في وقت و يحمل نعليه في يديه و يخرج للقاط ، و بشر يمشي حافياً على الدوام وحده ، و معروف يلتقط النوى .
و اليوم صارت الرياسات أكثر من كل جانب ، و ما تتمكن الرياسات حتى تتمكن من القلب الغفلة ، و رؤية الخلق ، و نسيان الحق ، فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا .
و لقد رأيت من الناس عجباً ، حتى من يتزين بالعلم ، إن رآني أمشي وحدي أنكر علي ، و إن رآني أزور فقيراً عظم ذلك ، و إن رآني أنبسط بتبسم ، نقصت من عينه .
فقلت : فواعجباً ، هذه كانت طريق الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم .
فصارت أحوال الخلق ، نواميس لإقامة الجاه .
لا جرم ـ و الله ـ سقطتم من عين الحق ، فأسقطكم من عين الخلق .
فكم ممن يتعب في تربية ناموس ، و لا يلتفت إليه و لا يحظى بمراده ، و يفوته المراد الأكبر .
فالتفتوا ـ إخواني ـ إلى إصلاح النيات ، و ترك التزين للخلق . و لتكن عمدتكم الإستقامة مع الحق ، فبذلك صعد السلف و سعدوا .
و إياكم و ما الناس عليه اليوم ، فإنه بالإضافة إلى يقظة السلف ، نوم .
· فصل : إن الهدي هدي الله
و الله ما ينفع تأديب الوالد إذا لم يسبق إختيار الخالق لذلك الولد ، فإنه سبحانه إذا أراد شخصاً ، رباه طفولته ، و هذاه إلى الصواب ، و دله على الرشاد ، و حبب إليه ما يصلح ، و صحبه من يصلح ، و بغض إليه ضد ذلك ، و قبح عنده سفساف الأمور ، و عصمه من القبائح ، و أخذ بيده كلما عثر .
و إذا أبغض شخصاً ، تركه دائم التعثير ، متخبطاً في كل حال ، و لم يخلق له همة لطلب المعالي ، و شغله بالرذائل عن الفضائل .
و إن قال : لم خصصت بهذا ؟
قال الخطاب الذي لا يحاب : فبما كسبت أيديكم .
· فصل : نفس الإنسان أكبر الأدلة على وجود الخالق
من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها التي دبرت مصالحها ، و ترقت إلى معرفة الأفلاك ، و اكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم ، و شاهدت الصانع في المصنوع ، فلم يحجبها ستر ، و إن تكاثف ، و لا يعرف مع هذا ، ماهيتها و لا كيفيتها ، و لا جوهرها و لا محلها .
و لا يفهم من أين جاءت ، و لا يدري أين تذهب ، و لا كيف تعلقت بهذا الجسد ؟
و هذا كله يوجب عليها أن لها مدبراً و خالقاً ، و كفى بذلك دليلاً عليه . إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها عليها . فسبحانه سبحانه . 
 
*فصل : من لم يتشاغل بالعلم كيف يبلغ الشريعة للخلق ؟
سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذي فهموا مقصود الأمر و مراد الشارع ، فهم حفظة الشريعة ، فأحسن الله جزاءهم  وإن الشيطان ليتجافاهم خوفاً منهم ، فأنهم يقدرون على آذاه و هو لا يقدر على أذاهم .
و لقد تلاعب بأهل الجهل و القليلي الفهم .
و كان من أعجب تلاعبه ، أن حسن لأقوام ترك العلم ، ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به .
و هذا ـ لو فهموه ـ قدح في الشريعة ، فأن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : بلغوا عني ، و قد قال له ربه عز وجل : بلغ .
فإذا لم يتشاغل بالعلم ، فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق ؟
و لقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد ، كبشر الحافي ، فإنه قال لعباس بن عبد العظيم : [ لا تجالس أصحاب الحديث ] .
و قال لإسحاق بن الضيف : [ إنك صاحب حديث ، فأحب ألا تعود إلي ] .
ثم إعتذر فقال : [ إنما الحديث فتنة ، إلا لمن أراد الله به ، و إذا لم يعمل به فتركه أفضل ] ، و هذا عجب منه .
من أين له أن طلابه لا يريدون الله به ، و أنهم لا يعملون به ؟
أو ليس العمل به على ضربين : عمل بما يجب ، و ذلك لا يسع أحداً تركه .
و الثاني : نافلة و لا يلزم .
و التشاغل بالحديث ، أفضل من التنفل بالصوم و الصلاة .
و ما أظنه أراد إلا طريقة في دوام الجوع و التهجد ، و ذلك شيء لا يلام تاركه .
فإن كان يريد ألا يوغل في علوم الحديث ، فهذا خطأ ، لأن جميع أقسامه محمودة .
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟
فالله الله في الإلتفات إلى قول من ليس بفقيه ، و لا يهولنك تعظيم إسمه فالله يعفو عنه .
· فصل : إلتماس رضى الله و إن سخط الناس
العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل ، و إن غضب الخلق .
و كل من يحفظ جانب المخلوقين ، و يضيع حق الخالق ، يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه فيسخطه عليه .
قال المأمون لبعض أصحابه : [ لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك ] .
و لما بلغ طاهر بن الحسين فيما فعل بالأمين و فتك به ، وصلب رأسه و إن كان ذلك عن إرادة المأمون ، و لكن بقى أثر في قلبه ، فكان المأمون لا يقدر أن يراه .
و لقد دخل عليه يوماً فبكى المأمون ، فقال له طاهر : لم تبكي لا أبكى الله عينك ، فلقد دانت لك البلاد ؟
فقال : أبكي لأمر ذكره ذل ، و سره حزن ، و لن يخلو أحد من شجن .فلما خرج طاهر أنفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم ، و سأله أن يسأل المأمون لم بكى ؟ فلما تغذى المأمون قال : يا حسين إسقني .قال لا و الله لا أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر ؟
قال : يا حسين و كيف عنيت بهذا حتى سألت عنه ؟ قال : لغمي بذلك .قال : يا حسين أمر إن خرج من رأسك قتلك .
قال : يا سيدي و متى أخرجت لك سراً ؟
قال : إني ذكرت أخي محمداً و ما ناله من الذلة ، فخنقني العبرة ، فاسترحت إلى إفاضتها و لن يفوت طاهراً مني ما يكره .
فأخبر حسين طاهراً بذلك ، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد .
فقال له إن المعروف عندي ليس بضائع ، فغيبني عن عينه . قال : سأفعل .فدخل على المأمون فقال : ما بت البارحة . قال : و لم ؟ قال : لأنك وليت غسان بن عباد خراسان . و هو و من معه أكلة رأس ، فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه .
قال : فمن ترى ؟ قال : طاهر بن الحسين . فعقد له فمضى ، فبقي مدة ثم قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة .
فقال له صاحب البريد : ما دعوت لأمير المؤمنين . قال : سهو فلا تكتب .ففعل ذلك في الجمعة الثانية و الثالثة . فقال له : لا بد أن أكتب لئلا يكتب التجار و يسبقوني . قال : أكتب . فكتب .
فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد و قال : إنه لم يذهب على إحتيالك في أمر طاهر ، و أنا أعطي الله عهداً إن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي لتذمن عقباك .
فشخص و جعل يتلوم في الطريق و يعتل بالمرض ، فوصل إلى الري و قد بلغته وفاة طاهر .قلت : و لما خرج الراشد من بغداد و أرادوا تولية المقتفى ، شهد جماعة من الشهود بأن الراشد لا يصلح للخلافة ، فنزعوه ، و ولى المقتفي .فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود فذمه ، و قال : كان فيمن أعان على أبي جعفر .
و على ضد هذا ، كل من يراعي جانب الحق و الصواب ، يرضى عنه من سخط عليه .ولقد حدثني الوزير ابن هبيرة أن المستنجد بالله كتب إليه كتاباً و هو يومئذ ولي عهد ، و أراد أن يستره من أبيه قال فقلت للواصل به : و الله ما يمكنني أقرؤه و لا أجيب عنه . فلما ولي الخلافة دخلت عليه فقلت : أكبر دليل على صدقي و إخلاصي أني ما حابيتك في أبيك . فقال : صدقت أنت الوزير .
و حدثني بعض الأصدقاء أن قوماً ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم ليستخلص ، فقال المسترشد لصاحب المخزن : خلصه لهم ، و خذ ما ضمنوا لنا .فأحضر ابن الرطبي و عرض الأمر عليه ، فقال : هذا أمر بظلم ، و ما أحكم فيه .
فقال : إن السلطان قد تقدم ، قال : ما أفعل .
فأحضر قاضياً آخر ، فبت الحكم ، فأخبر الخليفة بالحال .
فقال : أما ابن الرطبي فيشكر على ما قال . و أما الآخر فيعزل و ذلك لأنه بان له أن الحق ما قاله ابن الرطبى .
و كذلك ما طلبه السلطان من أن يلقب ملك الملوك ، فاستفتى الفقهاء فأجازوا ذلك ، و امتنع من إجازته الماوردي ، فعظم قدره عند السلطان .
و مثل هذا ـ إذا تتبع ـ كثير .فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق ، و إن سخط المخلوق ، فإنه يعود صاغراً . ولا يسخط الخالق ، فيفوت الحظان جميعاً .
· فصل : الحذر واجب
ينبغي للعاقل أن ينظر إلى الأصول فيمن يخالطه و يعاشره و يشاركه و يصادقه و يزوجه أو يتزوج إليه .
ثم ينظر بعد ذلك في الصور ، فإن صلاحها دليل على صلاح الباطن .
أما الأصول فإن الشيء يرجع إلى أصله ، و بعيد ممن لا أصل له أن يكون فيه معنى مستحسن .
إن المرأة الحسناء إذا كانت من بيت رديء فقل إن تكون صينة ، و كذلك أيضاً المخالط و الصديق و المباضع و المعاشر .
فإياك أن تخالط إلا من له أصل يخاف عليه الدنس ، فالغالب معه السلامة و إن وقع غير ذلك كان نادراً .
و قد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجل : أشر علي فيمن أستعمل .فقال : أما أرباب الدين فلا يريدونك أي لا يسألونك الرياسة ، و أما أرباب الدنيا فلا تردهم ، و لكن عليك بالأشراف ، فإنهم يصونون شرفهم عما لا يصلح .
و قد روى أبو بكر الصول ي قال : حدثني الحسين بن يحي عن إسحاق قال ، دعاني المعتصم يوماً فأدخلني معه الحمام ، ثم خرج فخلا بي و قال : يا أبا إسحاق في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه .
إن أخي المأمون اصطنع قوماً فأنجبوا ، و اصطفيت أنا مثلهم فلم ينجبوا .
قلت و من هم ؟ قال : اصطنع طاهراً و ابنه إسحاق و آل سهل فقد رأيت كيف هم .
و اصطنعت أنا الافشين فقد رأيت إلى ما آل أمره . و أسناش فلم أجده شيئاً ، و كذلك إيتاح و وصيف .
قلت : يا أمير المؤمنين ، ههنا جواب ، على أمان من الغضب .
قال : لك ذاك . قلت : نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها ، و استعملت فروعاً لا أصول لها فلم تنجب .
فقال : يا أبا إسحاق مقاساة ما مر بي طول هذه المدة أهون علي من هذا الجواب .
أما الصور ، فإنه متى صحت البينة و لم يكن فيها عيب فالغالب صحة الباطن و حسن الخلق ، و متى كان فيها عيب فالعيب في الباطن أيضاً .
فاحذر من به عاهة كالأقرع و الأعمى و غير ذلك ، فإن بواطنهم في الغالب ردية .
ثم مع معرفة أصول المخالط ، و كمال صورته لا بد من التجربة قبل المخالطة و استعمال الحذر لازم ، و إن كان كما ينبغي .
· فصل : ملاطفة الأعداء حتى التمكن منهم
ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب و التحرز مما يمكن أن يكون .
و من الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه و لصحة بدنه ، و ربما لا يجري له مصحوبة فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك ، فيكون مستعداً لتغير الأحوال .
كذلك النظر في لذة تفنى و تبقى تبعتها و عارها ، و إيثار الكسل و الدعة لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل .
و كذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال ، خصوصاً إذا أريد من ذكي فإنه يفطن بأقل تلويح .
فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر و تلطف في الاحتيال .
و قد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر ، و أتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء .
مثلما روي أن رجلاً من الأشراف كان لا يقوم لأحد و لا يخشى أحداً ، فجاز عليه بعض الوزراء و حي فلم يرد و لم يقم .
فقال ذاك الوزير لرجل : أخبر فلاناً أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه ، و قد أمر له بمائة ألف ، فليحضر ليقبضها ، فأخبره ذلك الرجل .
فقال الشريف : إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي ، و إنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه .
فمتى وقع الإنسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه ، [ كما ينظر صاحب الرقعة النقلات ] .
و كثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فاعطوه و بالغوا في إكرامه ليصيدوه ، فإن كان قليل الفطنة وقع في الشرك ، و إن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئاً فزاده ذلك احترازاً .
و أقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور ، فإنك إذا آذيت شخصاً فقد غرست في قلبه عداوة ، فلا تأمن تفريع تلك الشجرة ، و لا تلتفت إلى ما يظهر من ود و إن حلف ، فإن قاربته فكن مكنه على حذر .
و من التغفل أن تعاقب شخصاً أو تسيء إليه إساءة عظيمة و تعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد ، فتراه ذليلاً لك طائعاً تائباً مقلعاً عما فعل ، فتعود فتستطيبه و تنسى ما فعلت و تظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت .
فربما عمل لك المحن ، و نصب لك المكايد ، كما جرى لقصير مع الزباء ، و أخباره معروفة .
فإياك أن تساكن من آذيته ، بل إن كان و لا بد فمن خارج ، فما تؤمن الأحقاد .
و متى رأيت عدوك فيه غفلة لا يثنيه مثل هذا فأحسن إليه ، فإنه ينسى عداوتك و لا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله ، فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه .
و من الخور إظهار العداوة للعدو .... و من أحسن التدبير التلطف باللأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم ... و لو لم يمكن ذاك كان اللطف سبباً في كف أكفهم عن الأذى ، و فيهم من يستحي لحسن فعلك فيتغير قلبه لك .
و قد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلاً قد شتمهم أهدوا إليه و أعطوه ، فهم بالعاجل يكفوه شره ، و يحتالون في تقليب قلبه ، و يقع ذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا .
و كفى بالذهن الناظر إلى العواقب و التأمل لكل ممكن مؤدباً .
· فصل : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان
رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم ، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به .
فواعجباً كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه .
و في الحديث : استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان .
و لعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء ، و ترى بإفشائه راحة ، خصوصاً إذا كان مرضاً أو هماً أو عشقاً .
و هذه الأشياء في إفشائها قريبة . إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضاً .
فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه ، فإنه إذ ظهر بطل ما يراد أن يفعل ، و لا عذر لمن أفشى هذا النوع .
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد سفراً ورى بغيره .
فإن قال قائل : إنما أحدث من أثق به .
قيل له : و كل حديث جاوز الاثنين شائع ، و ربما لك يكتم صديقك وكم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب فنم الحديث إلى الصاحب و هرب ففات السلطان مراده .
وإنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره و لا يفشيه إلى أحد .
و من العجز إفشاء السر إلى الولد و الزوجة .
و المال من جملة السر . فاطلاعهم عليه ، إن كان كثيراً فربما تمنوا هلاك الموروث .
و إن كان قليلاً تبرموا بوجوده .
و ربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات .
و ستر المصائب من جملة كتمان السر ، لأن إظهارها يسر الشامت و يؤلم المحب .
و كذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن ، لأنه إن كان كبيراً استهرموه ، و إن كان صغيراً احتقروه .
و مما قد انهال فيه كثير من المفرطين أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميراً أو سلطاناً فيقولون فيه فيبلغ ذلك إليه فيكون سبب الهلاك .
و ربما رأى الرجل من صديقه إخلاصاً وافياً فأشاع سره و قد قيل : إحذر عدوك مرة و احذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة
و رب مفش سره إلى زوجة أو صديق فيصير بذلك رهيناً عنده و لا يتجاسر أن يطلق الزوجة ، و لا أن يهجر الصديق ، مخافة أن يظهر سره القبيح .
فالحازم من عامل الناس بالظاهر ، فلا يضيق صدره بسره فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم لم يقدر أحد منهم أن يقول ما يكره .ومن أعظم الأسرار الخلوات ، فليحذر الحازم فيها من الإنبساط بمرأى من مخلوق . و من خلق له عقل ثاقب دله على الصواب قبل الوصايا .
· فصل : في طريق الاستذكار

3.صيد الخاطر*وتحميل كتاب صيدُ الخاطر ابن الجوزي//

حمل كتاب صيدُ الخاطر ابن الجوزي
نبذه عن الكتاب
يذكر ابن الجوزي سبب تأليفه لهذا الكتاب فيقول:" لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهب كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى" وعليه فإن هذا الكتاب يعد من أفضل الكتب التي ألفت في بابه، إذ إن مؤلفه جلس طيلة حياته يتصيد الخواطر ويسجلها حتى تكون عبرة لمن يعتبر، وحتى يعم النفع بها.
مشكاة
------------------------
العرض 3
فصل : في فضل العالم و العامل
لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة ، في مقادير في العلم .
و كان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه ، و إن كان غيره أعلم منه .
و لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون و يعرفون و لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح و تعديل ، و يأخذون على قراءة الحديث أجرة ، و يسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه و إن وقع خطأ .
و لقيت عبد الوهاب الأنماطي ، فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ،و لا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، و كنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى و اتصل بكاؤه .
فكان ـ و أنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي ،و يبني قواعد .
و كان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل .
و لقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً .
و ربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه ، فيتوقف فيها حتى يتيقن .
و كان كثير الصوم و الصمت . فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول .
و رأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط و مزاح ، فراحوا عن القلوب و بدد تفريطهم ما جمعوا من العلم . فقل الانتفاع بهم في حياتهم ، و نسوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .
فالله الله في العلم بالعمل ، فإنه الأصل الأكبر .
و المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ، ففاته لذات الدنيا و خيرات الآخرة فقدم مفلساً على قوة الحجة عليه .


· فصل : لا نأمن مكر الله
سبحان الملك الغظيم الذي من عرفه خافه ، و ما أمن مكره قط ما عرفه .
لقد تأملت أمراً عظيماً ، إنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل ، فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه لا مانع .
فإذا زاد الإنبساط ، و لم ترعو العقول ، أخذ أخذ جبار .
و إنما كان ذلك الإمهال ليبلو صبر الصابر ، و ليملي في الإمهال للظالم ، فيثبت هذا على صبره ، و يجزي هذا بقبيح فعله .
مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما لا نعلمه .
فإذا أخذ عقوبة ، رأيت على كل غلطة تبعة .
و ربما جمعت فضرب العاصي بالحجر الدامغ .
و ربما خفي على الناس سبب عقوبته ، فقيل فلان من أهل الخير فما وجه ماجرى له ؟
فيقول القدر : حدود لذنوب خفية ، صار إستيفاؤها ظاهراً .
فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به ، و إستتر حتى كأنه لا يعرف .
و أمهل حتى طمع في مسامحته ، و ناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته ، لا حول و لا قوة إلا با الله .


· فصل : التلطف بالنفس
تأملت العلم و الميل إليه و التشاغل به ، فإذا هو يقوى القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة . و لولا قوة القلب ، و طول الأمل ، لم يقع التشاغل به .
فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه ، و أبتدىء بالتصنيف أرجو أن أتمه ، فإذا تأملت باب المعاملات قل الأمل ، و رق القلب ، و جاءت الدموع ، و طابت المناجاة و غشيت السكينة ، و صرت كأني في مقام المراقبة .
إلا أن العلم أفضل و أقوى حجة ، و أعلى رتبة ، و إن حدث منه ماشكوت منه .
و المعاملة و إن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها ، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان الذي قد إقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره ، و إنفرد بعزلته عن إجتذاب الخلق إلى ربهم .
فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم .
فإني لأكره لنفسي من جهة ضعف قلبي و رقته أن أكثر زيادة القبور ، و إن أحضر المحتضرين ، لأن ذلك يؤثر في فكري ، و يخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت ، و لأنتفع بنفسي مدة . و فصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقام المرض بضده .
فمن كان قلبه قاسياً شديد القسوة ، و ليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ ، قاوم ذلك بذكر الموت و محاضرة المحتضرين .
فأما من قلبه شديد الرقة فيكفيه ما به ، بل ينبغي له ان يتشاغل بما ينسيه ذلك لينتفع بعيشه ، و ليفهم ما يفتي به . و قد كان الرسول صلى الله عليه و سلم يمزح ويسابق عائشة رضي الله عنها ، و يتلطف بنفسه ، فمن سار سيرته عليه الصلاة السلام ، فهم من مضمونها ما قلت من ضرورة التلطف بالنفس .


· فصل : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته ، فإن ينتبه إنتباهاً لا يوصف ، و يقلق قلقاً لا يحد و يتلهف على زمانه الماضي .
و يود لو ترك كي يتدارك ما فاته ، و يصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت و يكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف .
و لو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى .
فالعاقل من مثل تلك الساعة و عمل بمقتضى ذلك .
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته .
فإنه يكف كف الهوى ، و يبعث على الجد .
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه ، كان كالأسير لها .
كما روي عن حبيب العجمي إنه كان إذا أصبح يقول لإمرأته : إذا مت اليوم ففلان يغسلني ، و فلان يحملني .
و قال معروف لرجل صل بنا الظهر ، فقال : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر .
فقال : و كأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر ، نعوز با الله من طول الأمل .
و ذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة ، فجعل معروف يقول له : أذكر القطن إذا و ضعوه على عينيك .


· فصل : الحر تكفيه الإشارة
ربما أخذ المتيقظ بيت شعر ، فأخذ منه إشارة فإنتفع بها .
قال الجنيد : ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حادياً في الطريق مكة شرفها الله تعالى بقول .
أبكي و ما يدريك ما يبكيني أبكي حذاراً أن تفارقيني
و تقطعي حبلي و تهجريني
فانظر رحمك الله و وفقك ، إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما إطلع عليه ، و لم يصلح للإطلاع على مثلها إلا الجنيد .
فإن أقواماً فيهم كثافة طبع ، و خشونة فهم .
قال بعضهم لما سمع مثل هذه . إلا م يشار بهذه ؟
إن كان إلى الحق ، فالحق عز وجل لا يشار بلفظ تأنيث . و إن كان إلى إمرأة فأين الزهد ؟
و لعمري إن هذا حداء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا ، و لذلك ينهى عن سماع القصائد و أقوال أهل الغناء ، لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس ، و غلبات الهوى .
و من أين لنا مثل الجنيد و ستري ؟
و إذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان .
و أما إعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب : أن سيراً لم يأخذ الإشارة من اللفظ ، و لم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيساً أو تذكيراً .
و إنما أخذ الإشارة من المعنى ، فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات ، فيقول : أبكي حذاراً من إعراضك و إبعادك . فهذا الحاصل له .
و ما التفت قط إلى تذكير و لا إلى لفظ تأنيث . فافهم هذا .
و ما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة و يلقبونه بكان و كان .
فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع إمرأة تنشد :
غسلت له طول الليل فركت له طول النهار
خرج يعاين غيري زلق وقع في الطين
فأخذ من إشارة معناها كان يا عبدي إني حسنت خلقك ، و أصلحت شأنك ، و قومت بنيتك ، فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي .
و قال ابن عقيل : و سمعت إمرأة تقول ، من هذا المكان ، و كانت كلمة بقيت في قلقها مدة . :
كم كنت با الله أقول لك لذا التواني غائله
و للقبيح خميرة تبين بعد قليل
قال ابن عقيل : فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غداً تبين خمايرها بين يدي الله تعالى .


· فصل : استفت قلبك
أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص ، فكنت كلما حصل شيء منه ، فاتني من قلبي شيء ، و كلما إستنارت لي طريق التحصيل ، تجدد في قلبي ظلمة .
فقلت يا نفس السوء ـ الإثم حواز القلوب ـ و قد قال استفت قلبك فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر .
و إن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت ، و النوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك . و ما زلت أغلب نفسي تارة و تغلبني أخرى ، ثم تدعي الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه . و تقول : فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر .
فقلت لها : أو ليس الورع يمنع من هذا ؟ قالت : بلى .
قلت : أليست القسوة في القلب تحصل به ؟ قالت : بلى .
قلت : فلا خير لك في شيء هذا ثمرته .
فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها : ويحك اسمعي أحدثك :
إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه ؟ قالت : لا .
قلت : فالمحنة أن يحظي به الغير و لا تنالين إلا الكدر العاجل ، و الوزر الذي لا يؤمن .
و يحك ، أتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه .
كأنك لا تدرين ألا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو مالا يصح و جهه.
أو ما سمعت أن من ترك شيئاً الله عوضه الله خيراً منه ؟
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم ، و أملوا فما بلغوا مناهم ؟
كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها .
و كم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء .
و كم من طيب العيش لا يملك دينارين .
و كم من ذي قناطير منغص .
أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه ؟
ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه ، و المتقي معافى .
فضجت النفس من لومي و قالت : إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني ؟
فقلت لها : أضن بك عن الغبن و أنت أعرف بباطن أمرك .
قالت : فقل لي ما أصنع ؟
قلت : عليك بالمراقبة لمن يراك ، و مثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك .
فخذي بالأحوط ، و احذري من الترخص في بيع اليقين ، و التقوى بعاجل الهوى .
فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له : مهلاً ، فما انقضت مدة الإشارة ، و الله مرشدك إلى التحقيق ، و معينك بالتوفيق .


· فصل : إن ربك لبالمرصاد


ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر و أرباب المناصب أنهم يشربون الخمور ، و يفسقون ، و يظلمون و يفعلون أشياء توجب الحدود .
فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً ؟ فلو ثبت يقيمه ؟
و أستبعد هذا في العادة ، لأنهم في مقام إحترام لأجل مناصبهم .
فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم ، حتى رأيناهم قد نكبوا و أخذوا مرات ، و مرت عليهم العجائب .
فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم ، و أخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل ، و القيد الثقيل ، و الذل العظيم .
و فيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة ، فعلمت أنه ما يهمل شيء .
فالحذر الحذر ، فإن العقوبة بالمرصاد .


· فصل : اليد العليا خير من اليد السفلى


إجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل و الشرع .
فمن ذلك حفظ ماله ، و طلب تنميته ، و الرغبة في زيادته لأن سبب بقاء الإنسان ماله فقد نهى عن التبذير فيه ، فقيل له : و لا تؤتوا السفهاء أموالكم فأعلم أنه سبب لبقائه التي جعل الله لكم قياماً أي أقواماً لمعاشكم .
و قال عز وجل : و لا تبسطها كل البسط .
و قال تعالى : و لا تبذر تبذيرا و قال تعالى : لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواماً .
و من فضيلة المال أن الله تعالى قال : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً و قال تعالى : و أنفقوا في سبيل الله .
و قال تعالى : ينفقون أموالهم .
و قال تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح .
و جعل المال نعمة . و زكاته تطهيراً . فقال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها .
و قال صلى الله عليه و سلم نعم المال الصالح للرجل الصالح .
و قال : ما نفعني مال كمال أبي بكر .
و كان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة ، و يترك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلا ينهاه عن ذلك .
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازياً في سبيل الله ] .
و كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتاجرون . و من سادات التابعين سعيد بن المسيب ، مات و خلف مالاً ، و كان يحتكر الزيت .
و ما زال السلف على هذا .
ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بداً من الإحتيال في طلبه ، فيبذل عرضه أو دينه .
ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال ، و هو معدود عند االأطباء من الأدوية .
حكمة وضعها الواضع .
ثم نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة و قالوا : نحن لا نمسك شيئاً ، و لا نتزود لسفر ، و رزق الأبدان يأتي .
و هذا على مضادة الشرع ، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن إضاعة المال .
و موسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود .
و نبينا صلى الله عليه و سلم لما هاجر تزود .
و أبلغ من هذا قوله تعالى : و تزودوا فإن خير الزاد التقوى .
ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا ، فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض .
و يرون زيادة الطلب للمال حرصاً و شرهاً .
و في الجملة إنما إخترعوا بأرائهم طريقاً فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا و شيء من البهرجة إذا نصبوا شبك الصيد بالتزهد ، فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحاً .
قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح و قوله صلى الله عليه و سلم : و اليد العليا قال : هي المعطية .
قال : فالمعجب عندي من قوم يقولون هي الأخذة .
و لا أرى هؤلاء القوم إستطابوا السؤال ، فهم يحتجون للدناءة ، فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم .
و في الحديث : ضاق البلد بمواشي إبراهيم و لوط عليهما السلام فافترقا .
و كان شعيب عليه السلام كثير المال ثم قد ند طعمه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال : فإن أتممت عشراً فمن عندك .
و كان ابن عقيل رحمه الله يقول : [ من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب ] .
فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال : هل آمنكم عليه . فقالوا : و نزداد كيل بعير . فقال : خذوه .
و قال بعض السلف : [ من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه ، فإذا ثبت صدقه فهو مجنون ] .
و قد نفر جماعة من المتصوفة خلقاً من الخلق عن الكسب ، و أوحشوا بينهم و بينه ، و هو دأب الأنبياء و الصالحين .
و إنما طلبوا طريق الراحة و جلسوا على الفتوح ، فإذا شبعوا رقصوا ، فإذا إنهضم الطعام أكلوا فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة ، إما بسبب شكر أو بسبب إستغفار .
و أطم الطامات إدعاؤهم أن هذا قربة .
و قد إنعقد إجتماع العلماء أن من إدعى الرقص قربه إلى الله تعالى كفر .
فلو أنهم قالوا : مباح كان أقرب حالاً ، و هذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع ، و ليس في الشرع أمر بالرقص و لا ندب إليه .
و لقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان و ينظرون إليهم فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا : نعتبر بخلق الله ! ! ! أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه و سلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره ، و قال هل كانت فتنة داود إلا من النظر .
هيهات ! لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد .
و العجب ممن يذم الدنيا و هو يأكل فيشبع ، و لا ينظر من أين المطعم .
و ما زال صالحو السلف يفتشون عن المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو و أصحابه و يقولون مع من نعمل غداً ؟ و كان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء ، و له في الورع مقامات ، فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون إيباع أولئك السادة ، و يأكلون من مال فلان ، و هم يعرفون أصول تلك الأموال ، و يقولون : رزقنا .
فواعجباً إذا كان الآكل لا يبالي به من أين و لا لديه إمتناع من شهوة و لا تقلل ، و لا يخلو الرباط من المطبخ ، و لا ينقطع ليلة ، و أصله من مال قد عرف من أين هو ، و الحمام دائر ، و المعنى يدق بدف فيه جلاجل ، و رفيقه بالشبابة ، و سعدي و ليلي في الإنشاد ، و المردان في السمع ، ثم يذم الدنيا بعد هذا .
فقولوا لنا : من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ؟ و لكن من مرت عليه رزجنتهم فإنه أخس منهم .


· فصل : التفكر في خلق الله
عرض لي في طريق الحج من العرب ، فسرنا على طريق خبير ، فرأيت من الجبال الهائلة و الطرق العجيبة ما أذهلني ، و زادت عظمة الخالق عز وجل في صدري فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجد عند ذكر غيرها .
فصحت بالنفس : و يحك أعبري إلى البحر و أنظري إليه و إلى عجائبه بعين الفكر ، تشاهدي أهوالا هي أعظم من هذه ، ثم أخرجي إلى الكون و التفتي إليه فإنك ترينه بالإضافة إلى السماوات و الأفلاك كذرة فيفلاة .
ثم جولي في الأفلاك و طوفي حول العرش و تلمحي ما في الجنان و النيران ، ثم أخرجي عن الكل و إلتفتي إليه ، فإنك تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي لا تقف قدرته عند حد . ثم إلتفي إليك فتلمحي بدايتك و نهايتك ، و تفكري فيما قبل البداية ، و ليس إلا العدم ، و فيما بعد البلى وليس إلا التراب .
فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ و المنتهي ؟ و كيف يغفل أرباب القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم ؟
با الله لو صحت النفوس عن سكر هواها ، لذابت من خوفه ، أو لغابت في حبه .
غير أن الحس غلب فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل ، و إن الفطنة لو تلمحت المعاني لدلت القدرة عليه أوفى من دليل الجبل .
سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عما خلقوا له ، سبحانه .


· فصل : البلاء و الصبر
للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل ، فلا بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء .
فإن تقلل قبل الوقت لم ينفع التقلل ، كما أن المادة إذا إنحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع ، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة ، فإستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع .
فالواجب الصبر و إن كان الدعاء مشروعاً و لا ينفع إلا به ، إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل ، بل يتعبد بالصبر و الدعاء و التسليم إلى الحكيم .
و يقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء ، فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة .
فأما المستعجل فمزاحم للمدبر ، و ليس هذا مقام العبودية و إنتما المقام الأعلى هو الرضى ، و الصبر هو اللازم .
و التلاقي بكثرة الدعاء نعم المعتمد ، و الإعتراض حرام ، و الإستعجال مزاحمة للتدبير فافهم هذه الأشياء فإنها تهون البلاء .


· فصل : الصبر مفتاح الفرج
ليس في الجودة شيء أصعب من الصبر ، إما عن المحبوب أو على المكروهات .
و خصوصاً إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج .
و تلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها ، و الزاد يتنوع من أجناس ، فمنه تلمح مقدار البلاء ، و قد يمكن أن يكون أكثر ، و منه أنه في حال فوقها أعظم منها ، مثل أن يبتلي بفقد ولد عنده أعز منه ، و من ذلك رجاء العوض في الدنيا ، و منه تلمح الأجر في الآخرة . و منه التلذذ بتصوير المدح و الثناء من الخلق فيما يمدحون عليه ، و الأجر من الحق عز وجل .
و من ذلك أن الجزع لا يفيد بل يفضح صاحبه ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل و الفكر .
فليس في طريق الصبر نفقة سواها ، فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ، و يقطع بها ساعات ابتلائه و قد صبح المنزل .


· فصل : الحكمة الإلهية


ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا ألا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها .
لأن الذي إليه أن يدعو ، و المدعو مالك حكيم ، فإن لم يجب فعل ما يشاء في ملكه ، و إن أخر فعل بمقتضى حكمته .
فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد ، مزاحم لمرتبة مستحق ثم ليعلم أن إختيار الله عز وجل له ، خير من إختياره لنفسه ، فربما سأل سيل سال به .
و في الحديث : أن رجلاً كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد ، فهتف به هاتف : إنك إن غزوت أسرت ، و إن أسرت تنصرت .
فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته و حكمه ، و أيقن أن لكل ملكه طاب قلبه ، قضيت حاجته أو لم تقض .
و في الحديث : ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه . فإما أن يعجلها ، و إما أن يؤخرها ، و إما أن يدخرها له في الآخرة .
فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب ، و ما لم يجب فيه قد بقى ثوابه ، قال : ليتك لم تجب لي دعوة قط .
فافهم هذه الأشياء و سلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال .


· فصل : فضل العالم


من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد ، فلينظر في رتبة جبريل و ميكائيل و من خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق ، و باقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع .
و قد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى .
فإذا أمر أحدهم بالوحي إنزعج أهل السماء حتى يخبرهم بالخبر : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق .
كما انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته و معناه .
فسبحان من خص فريقاً بخصائص شرفوا بها على جنسهم . و لا خصيصة أشرف من العلم .
بزيادته صار آدم مسجوداً له ، و بنقصانه صارت الملائكة ساجدة .
فأقرب الخلق من الله العلماء ، و ليس العلم بمجرد صورته هو النافع ، بل معناه ، و إنما ينال معناه من تعلمه للعمل به .
فكلما دله على فضل اجتهد في نيله ، و كلما نهاه عن نقص بالغ في مباعدته
فحينئذ يكشف العلم له سره ، و يسهل عليه طريقه ، فيصير كمجتذب يحث الجاذب ، فإذا حركه عجل في سيره .
و الذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غروره ، و لا يكشف له عن سره ، فيكون كمجذوب لجاذب جاذبه .
فافهم هذا المثل ، و حسن قصدك ، و إلا فلا تتعب .


· فصل : أصلح الأمور الاعتدال


إعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء . و إذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم و فسدت في الخير أعمالهم ، أمرناهم بذكر الموت و القبور و الآخرة .
فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت ، و أحاديث الآخرة تقرأ عليه و تجري على لسانه فتذكره الموت زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة .
بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفس أمله قليلاً فيصنف و يعمل أعمال خير ، و يقدر على طلب ولد .
فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته .
ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه و سلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته و سابقها فسبقها ، و كان يمزح و يشاغل نفسه ؟
فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن و تزعج النفس .
و قد روي عن أحمد بن حنبل رحمه الله عليه : [ أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف ففتح عليه فخاف على عقله ، فسأل الله أن يرد ذلك عنه ] .
فتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس و في ذلك صلاحها و الله الموفق و السلام .


· فصل : لا تنون عن طلب الكمال


من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ، و نهاه عن الرضى بالنقص في كل حال .
و قد قال أبو الطيب المتنبي :
و لم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه .
فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات ، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض .
و لو كانت النبوة تحصل بالإجتهاد ، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض . غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن .
و السيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم و العمل .
و أنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله :
أما في البدن : فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي ، بل يدخل تحت كسبه تحسينها و تزيينها . فقبيح بالعاقل إهمال نفسه .
و قد نبه الشرع على الكل بالبعض ، فأمر بقص الأظفار ، و نتف الإبط ، و حلق العانة ، و نهى عن أكل الثوم و البصل النيء لأجل الرائحة .
و ينبغي له أن يقيس على ذلك و يطلب غاية النظافة و نهاية الزينة .
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يعرف مجيئه بريح الطيب ، فكان الغاية في النظافة و النزاهة .
و لست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ، و لكن التوسط هو المحمود .
ثم ينبغي له أن يرفق بيدنه الذي هو راحلته و لا ينقص من قوتها فتنقص قوته .
و لست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء ، إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين جارية كم فيها منفعة لصاحبها و لغيره .
و لا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض .
و ليس ذلك من الشرع و لا نقل عن الرسول صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه .
إنما كان الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه إذا لم يجدوا جاعوا ، و ربما آثروا فصبروا ضرورة .
و كذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها ـ فرب لقمة منعت لقمات ـ فلا يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح ، و لا يتلفت إلى متزهد يقول لا أبلغها الشهوات .
فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم و أخذ ما يصلح بمقدار .
و لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق . إنما نقل عنهم تركها لسب ، إما للنظر في حلها ، أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت و يجوز ذلك .
و ينبغي له أن يجتهد في التجارة و الكسب ليفضل على غيره و لا يفضل غيره عليه .
و لبيلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم ، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم .
و من أقبح النقص التقليد ، فإن قويت همته ، رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً و لا يتمذهب لأحد فإن المقلد أعمى بقوده مقلده .
ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى و معاملته ، و في الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها . فإن القنوع حالة الأرذال .
فكن رجلاً رجله في الثرى و هامة همته في الثريا
و لو أمكنك عبور كل أحد من العلماء و الزهاد فإفعل ، فإنهم كانوا رجالاً و أنت رجل . و ما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة و خساستها .
و اعلم أنك في ميدان سباق و الأوقات تنتب و لا تخلد إلى كسل ، فما مات ما فات إلا بالكسل ، و لا نال من نال إلا بالجد و العزم .
و إن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور ، و قد قال بعض من سلف :
ليس لي مال سوى كرى فبه أحيا من العدم
فنعت نفسي بما رزقت و تمطت في العلا هممي


· فصل : في الفقر و أثره على العالم


ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للإستغناء عن الناس ، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال .
و إن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب ، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه . و قل الصبر فدخلوا مداخل شانتهم و إن تأولوا فيها ، إلا أن غيرها كان أحسن لهم . فالزهري مع عبد الملك ، و أبو عبيدة مع طاهر بن الحسين ، و ابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد ، و ابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير . و ما زال حلف من العلماء و الزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم .
و هؤلاء و إن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم و كمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا .
و قد رأينا جماعة من المتصوفة و العلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم ، فمنهم من يداهن و يرائي ، و منهم من يمدح بما لا يجوز ، و منهم من يسكت عن منكرات ، إلى غير ذلك من المداهنات ، و سببها الفقر .
فعلمنا أن كمال العز و بعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة ، و لم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين :
إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت و غيره ، و سفيان الثوري كانت له بضائع ، و ابن المبارك .
و إما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق و إن لم يكفه كبشر الحافي ، و أحمد بن حنبل .
و متى لم يجد الإنسان كصبر هذين ، و لا كمال أولئك ، فالظاهر تقلبه في المحن و الآفات ، و ربما تلف دينه .
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس ، فإنه يجمع لك دينك ، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين و التزهد و التخشع ، و لا آفة طرأت على عالم إلا يجب الدنيا ، و غالب ذلك الفقر ، فإن كان له مال يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة ، فذلك معدود في أهل الشره ، خارج عن حيز العلماء ، نعوذ بالله من تلك الأحوال .


· فصل : التبحر في الفقه


أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته . و من تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم ، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه على الخلائق أبداً ، و إن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أو باللغة . و اعتبر هذا بأهل زماننا ، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني و يعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء .
كم رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع .
و ربما جهل علم ما ينويه في صلاته ، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم . فإنه لا يكون فقيهاً ، بل يأخذ من كل علم بحظ ثم ينوفر على الفقه فإنه عز الدنيا و الآخرة .


· فصل : غلبة الهوى


رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة و لا يتحاشون من غيبة ، و يكثرون من الصدقة و لا يبالون بمعاملات الربا ، و يتهجدون بالليل و يؤخرون الفريضة عن الوقت ، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع و تضييع أصول ، فبحثت عن سبب ذلك ، فوجدته من شيئين : أحدهما العادة ، و الثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب ، فإنه قد يغلب فلا قد يغلب فلا يترك سمعاً و لا بصراً .
و من هذا القبيل ان إخوة يوسف قالوا ـ حين سمعوا صوت المنادي ـ : إنكم لسارقون لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين ، فجاء في التفسير أنهم لما ذخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا نتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا : قد رأيتم ما صنعناه بإبلنا فكيف نسرق ؟ و نسوا هم تفاوت ما بين الورع و اختطاف أكلة لا يملوكونها ، و بين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب و بيعه بثمن بخس . و في الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها ، و فيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة ، و فيما لا ينقص شيئاً من عادته في مطعم و ملبس . نرى أقواماً يأخذون الربا و يقول أحدهم : كيف يراني عدوي بعد بعت داري ، أو تغير ملبوسي و مركوبي !
و نرى أقواماً يوسوسون في الطهارة و يستعملون الكثير من الماء و لا يتحاشون من غيبه .
و أقواماً يستعملون التأولات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز ، حتى أني رأيت رجلاً من أهل الخير و التعبد أعطاه رجل مالاً ليبني به مسجداً ، فأخذه لنفسه و أنفق عوض الصحيح قراضة ، فلما إحتضر قال لذلك الرجل : إجعلني في حل فإني فعلت كذا و كذا .
و نرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها ، فقد ألفوا الترك ، و إذا قربوا منها لم يتمالكوا .
و في الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها .
و قد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم ، فلما جاء الإسلام و عرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم .
كذلك قيصر فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالدليل ، ثم لم يقدر على مقاومة هواه و ترك ملكه .
فالله الله في تضييع الأصول ، و من إهمال سرح الهوى ، فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى .
ما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه .
و ربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت ، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، و منهم من يكفه بخيط ، فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى ، و أن يكون بصيراً بما يقوى عليه من أعدائه ، و بمن يقوى عليه .


فصل : احذر الصديق قبل العدو


من أعظم الغلط الثقة بالناس و الاسترسال إلى الأصدقاء ، فإن أشد الأعداء و أكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً ، لأنه قد اطلع على خفي السر .
قال الشاعر :
احذر عدوك مرة و إحذر صديقك ألف مرة
فلربما إنقلب الص ديق فكان أعلم بالمضرة
و إعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم ، أو الغبطة و حب الرفعة ، فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له و قد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر و ربما حسد .
فإن إخوة يوسف عليهم السلام من هذا الجنس جرى لهم ما شأنهم .
فإن قلت : كيف يبقى الإنسان بلا صديق ؟ قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد ، و أن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يبتسم ، و لا يتناول من شهوات الدنيا شيئاً ، فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح هبط من أعينهم فإذا كانت هذه حالة العوام ، و تلك حالة الخواص ، فمع من تكون المعاشرة ؟
لا بل و الله ما تصح المعاشرة مع النفس لأنها متلونة ، و ليس إلا المداراة للخلق و الإحتراز منهم ، و اتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق ، فإن ندر فليكن غير مماثل ، لأن الحسد إليه أسبق ، و ليكن مرتفعاً عن رتبة العوام غير طامع في نيل مقامك .
و إن كانت معاشرة هذا لا تشفي لأن المعاشرة ينبغي أن تكون بين العلماء للمجانس ، فلزمهم من الإرشادات في المخالطة ما تطيب به المجالسة ، و لكن لا سبيل إلى الوصال .
و مثل هذه الحال أنك إن إستخدمت الأذكياء عرفوا باطنك ، و إن إستخدمت الأبله إنعكست مقاصدك .
فإجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة ، و البله لحوائجك في منزلك لئلا يعلموا أسرارك ، و أقنع من الأصدقاء ، بمن وصفته لك ، ثم لا تلقه إلا متدرعاً درع الحذر ، و لا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه ، و كن كما يقال عن الذئب :
ينام بإحدى مقلتيه و يتقي بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع


· فصل : الغنى عما في أيدي الناس


رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره و ريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى ، و هجر فنون الراحات ، أنفة من الجهل ، و رذيلته ، و طلباً للعلم و فضيلته ، فما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا . و من لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال ، و يتواضع للسفلة و أهل الدناءة و المكاس و غيرهم .
فخاطبت بعضهم و قلت ، ويحك أن تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها ، و أظمأت نهارك بسببها ، فلما إرتفعت و إنتفعت عدت إلى أسفل سافلين .
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو بها عن مقامات الأرذال ؟ و لا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟
و لا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟ على أنه يبين لي أن سهرك و تعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا .
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم ، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك .
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة ، بل لعله كله مخاطرة بالنفس ، و بذل الوجه طالما صين لمن لا يصلح إلتفات مثلك إلى مثله .
و بعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف ، و قد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم .
و أبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ .
و من لك بالسلامة و الرجوع إلى الوطن ؟ و كم رمى قفر في بواديه من هالك !
ثم ما تحصله يفني و يبقى منه ما أعطى ، و عيب المتقين إياك ، و اقتداء الجاهلين بك .
و يكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه ، خصوصاً و قد مر أكثر العمر .
و من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي .


· فصل : على الفقه مدار العلوم


رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده .
و قد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه و هو مع ذلك حريص على الإزدياد .
و لو فهم ، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر ، فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان جميعاً .
و كم رأينا من جمع المال و لم يتمتع به فأبقاه لغيره و أفنى نفسه كما قال الشاعر :
كدودة القز ما تبنيه يهدمها و غيرها بالذي تبنيه ينتفع
و كذلك رأينا خلقاً كثيراً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها ، و كدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ و السماع إلى ماخر العمر ثم ينقسمون :
فمنهم من يتشاغل بالحديث و علمه و تصحيحه ، و لعله لا يفهم جواب حادثة ، و لعل عنده للحديث ـ أسلم سالمها الله ـ مائة طريق .
و قد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء ابن عرفة عن مائة شيخ ، و كان عنده سبعون نسخة .
و منهم من يجمع الكتب و يسمعها و لا يدري ما فيها لا من صحة حديثها و لا من فهم معناها ، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي و عندي له نسخة ، و الكتاب الفلاني و الفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه ، و قد صده إشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة :
زوامل للأخبار لا علم عندها بمثقلها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية و حدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله ، فإن أفتى أخطأ ، و إن تكلم في الأصول خلط .
و لولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم و ما خلطوا ما يعتبر به ، و لكنه لا يخفى على المحقق حالهم .
فإن قال قائل : أليس في الحديث : منهومان لا يشبعان : طالب علم و طالب دنيا ؟
قلت : أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم ، و لا اقتصر على بعضه .
بل أقول له : قدم المهم ، فإن العاقل من قدر عمره و عمل بمقتضاه ، و إن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر ، غير أنه يبني على الأغلب ، فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً ، و إن مات قبل الوصول فنيته تسلك به .
فإذا علم العاقل أن العمر قصير ، و أن العلم كثير ، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث و نسخه ليحصل كل طريق ، و كل رواية ، و كل غريب ، و هذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة ، خصوصاً إن تشاغل بالنسخ . ثم لا يحفظ القرآن ، أو يتشاغل بعلوم القرآن و لا يعرف الحديث ، أو بالخلاف في الفقه و لا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة .
فإن قال قائل : فدبر لي ما تختار لنفسك ؟
فأقول : ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا .
كما قال سفيان بن عيينة : قال لي أبي ـ و قد بلغت خمس عشرة سنة ـ : [ إنه قد إنقضت عنك شرائع الصبا ، فإتبع الخير تكن من أهله ، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها و لا أميل عنها ] .
ثم فبل شروعي في الجواب أقول : ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس .
فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية . أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة .
و لو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً .
و المقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم و العمل .
و قد علم قصر العمر و كثرة العلم فيبتدئ بالقرآن و حفظه ، و ينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء .
و إن صح له قراءة القراءات السبعة و أشياء من النحو و كتب اللغة و ابتداء بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح و المسانيد و السنن ، و من حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء و الأسماء ، فلينظر في أصول ذلك .
و قد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب .
و لينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه و سلم و أقاربه و أزواجه و ما جرى له ، ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب و الخلاف ، و ليكن إعتماده على مسائل الخلاف ، فلينظر في المسألة و ما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه ، كتفسير آية و حديث و كلمة لغة .
و يتشاغل بأصول الفقه و بالفرائض ، و ليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم .
و يكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجودد الصانع ، فإذا أثبته بالدليل و عرف ما يجوز عليه مما لا يجوز ، و أثبت إرسال الرسل و علم وجوب القبول منهم ، فقد إحتوى على لمقصود من علم الأصول .
فإن إتسع الزمان للتزيد من العلم ، فليكن من الفقه فإنه الأنفع .
و مهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم ، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً صالحاً ، مع اجتهاده في التسبب إلى إتخاذ الولد ، ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل ، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه .
فإذا تعرض لتحقيق معرفته و وقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا و يجذب إلى مقام الولاية ، و من أريد وفق .
و إن لله عز وجل أقواماً يتولى ترتيبهم ، و يبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدباً ، و يسمى العقل . و مقوماً ، و يقال له الفهم ، و يتولى تأديبهم و تثقيفهم ، و يهيء لهم أسباب القرب منه .
فإن لاح قاطع عنه حماهم منه ، و إن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم .
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ، و نعوذ به من خذلان لا ينفع معه إجتهاد .


· فصل : الجزاء على مقادر الاخلاص
إن للخلوة تأثيرات تبين في الخلوة ، كم من مؤمن با الله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه ، أو رجاء لثوابه ، أو إجلالاً له ، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستشنقه الخلائق و لا يدرون أين هو .
و على قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته ، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب ، و يتفاوت تفاوت العود .
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص و ألسنتهم تمدحه و لا يعرفون لم ؟ و لا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته .
و قد تمتد هذه الأرابيح بعض الموت على قدرها ، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى ، و منهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره و قبره ، و منهم أعلام يبقى ذكرها أبداً .
و على عكس هذا من هاب الخلق ، و لم يحترم خلوته بالحق ، فإنه على قدر مبارزته بالذنوب ، و على مقادير تلك الذنوب ، يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب ، فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير ، و بقي لمجرد تعظيمه ، و إن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه و لا يذمونه .
و رب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا و الآخرة و كأنه قيل له : إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط .
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت و عثرت .
و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : [ إن العبد ليخلوا بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ] .
فتلحموا ما سطرته ، و اعرفوا ما ذكرته ، و لا تهملواخلواتكم و لا سرائركم ، فإن الأعمال بالنية ، و الجزاء على مقدار الإخلاص .


· فصل : ذل العارف بالحاجة إلى التسبب


من عرف جريان الأقدار ثبت لها ، و أجهل الناس بعد هذا من قاواها ، لأن مراد المقدار الذل له ، فإذا قاويت القدر فلنت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل .
مثال هذا : أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة ، فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق مستحياً من الله كيف يسألهم ، و إن كان له عذر بالحجة لتي ألجأته ، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى معتذراً مستحياً و ذاك المراد منه .
أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة فلا يقدر على العود إليها حتى يدخل في خفارة المطعم بن عدي و هو كافر .
فسبحان من ناط الأمور بالأسباب ، ليحصل ذل بالحاجة إلى التسبب .


· فصل : البلاء و الصبر


سبحان المتصرف في حقله بالإغتراب و الإذلال ليبلو صبرهم ، و يظهر جواهرهم في الإبتلاء .
هذا آدم صلى الله عليه و سلم ، تسجد له الملائكة ، ثم بعد قليل يخرج من الجنة .
و هذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ، ثم بعد قليل ينجو في السفينة ، و يهلك أعداؤه .
و هذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة .
و هذا الذبيح يضطجع مستسلماً ، ثم يسلم و يبقى المدح .
و هذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول .
و هذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم .
و هذا نبينا محمد صلى الله عليه و سلم يقال له بالأمس اليتيم ، و يقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة ، و من مكائد الفقر أخرى ، و هو أثبت من جبل حراء . ثم لما تم مراده من الفتح ، و بلغ الغرض من أكبر الملوك و أهل الأرض نزل به ضيف النقلة ، فقال : و اكرباه .
فمن تلمح بحر الدنيا ، و علم كيف تتلقى الأمواج ، و كيف يصبر على مدافعة الأيام ، لم يستهول نزول بلاء ، و لم يفرح بعاجل رخاء .


· فصل : عليك من العمل ما تطيق
ينبغي للعاقل ألا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها ؟ و بحرب نفسه في ركوب بعضها سراً من الخلق ، فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها ، ثم يعود فيفتضح ، مثال : رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة و لبس الدون و إنفرد في زواية ، و غلب على قلبه ذكر الموت و الآخرة ، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح بما جرت به العادة .
فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقة من مرض ، و منهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب .
و إنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل الخير ، و لا يدخله في زي أهل الفاقة ، فإن قويت عزيمته عمل في بيته ما يطيق ، و ترك ثوب التجمل لستر الحال ، و لم يظهر شيئاً للخلق ، فإنه أبعد من الرياء ، و أسلم من الفضيحة .
و في الناس من غلب عليه قصر الأمل و ذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم ، و هذا الفعل عندي من أعظم الخطأ و إن كان منقولاً عن جماعة من الكبار .
و لقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال : أخطأوا كلهم و قد تأولت لبعضهم بأنه كان فيها أحاديث عن قوم ضعفاء و لم يميزوها ، كما روى عن سفيان في دفن كتبه .
أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره .
و هذا التأويل يصح في حق علمائهم .
فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه ، و ابن أسباط ، فتفريط محض .
فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع ، أو من إرتكاب ما يظن عزيمة و هو خطيئة ، أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى .
و عليكم من العمل بما تطيقون كما قال صلى الله عليه و سلم .


· فصل : لا خير في لذة بعد العقاب


أجل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته ، فكم قد سمعنا عن سلطان و أمير و صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها ، و لم ينظر في حلال و حرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ ، و لقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه و لا ذرة من كل لذة .
و لو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف و الجزاء الدائم بين يديه .
فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك و لا أنكر على طالبها و مؤثر شهواتها .
و لكن ينبغي له أن ينظر في كسبها و يعلم وجه أخذها ، ليسلم له عاقبة لذته ، و إلا فلا خير في لذة من بعدها النار .
و هل عد في العقلاء قط من قيل له : إجلس في المملكة سنة ثم نقتلك .
هيهات بل الأمر بالعكس و هو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين ليستريح في عاقبته .
و في الجملة أف للذة أعبت عقوبة .
و قد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال : أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال : أخبرنا الحسن بن أبي طالب ، قال : حدثنا يوسف بن عمر القواس ، قال : حدثنا الحسين بن إسماعيل إملاء ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي سعد ، قال : حدثنا محمد بن أبي مسلمة البلخي ، قال : حدثنا محمد بن علي القوهستاني ، قال : حدثنا دلف بن أبي دلف قال : [ رأيت كأن آتياً أتى بعد موت أبي فقال أجب الأمير . فقمت معه ، فأدخلني دار وحشة ، و عرة سوداء الحيطان ، مقلمة السقوف و الأبواب ، ثم أصعدني درجاً فيها . ثم أدخلني غرفة ، فإذا في حيطانها أثر النيران ، و إذا في أرضها أثر الرماد و إذا بأبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم : دلف ؟ قلت : نعم أصلح الله الأمير ] . فأنشأ يقول :
أبلغن أهلنا و لا تخف عنهم ما لقينا في البرزخ الخفاق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا فارحموا وحشتي و ما قد ألاقي
أفهمت ؟ قلت : نعم ؟ فأنشأ يقول :
فلو إنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
و لكن إذا متنا بعثنا و نسأل بعده عن كل شيء


· فصل : الله أعلم بما يصلح عبده


اللذات كلها بين حسي و عقلي ، فنهاية اللذات الحسية و أعلاها النكاح ، و غاية اللذات العقلية العلم ، فمن حصلت له الغاياتان في الدنيا فقد نال النهاية ، و أنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين ، غير أن للطالب المرزوق علامة و هو أن يكون مرزوقاً علو الهمة ، و هذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور .
كما يروى في الحديث أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحجر ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم يأتي و هو طفل فيجلس عليه ، فيقول عبد المطلب : [ إن لإبني هذا شأناً ] .
فإن قال قائل : فإذا كانت لي همة و لم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟
فالجواب : أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر .
ثم من البعيد أن يرزقك همة و لا يعينك ، فأنظر في حالك فلعله أعطاك شيئاً ما شكرته ، أو إبتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه .
و اعلم أنه ربما زوى عنك من لذات الدنيا كثيراً ليؤثرك بلذات العلم ، فإنك ضعيف ربما لا تقوى على الجمع ، فهو أعلم بما يصلحك .
و أما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدئ طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفاً ، و يجعل علم الفقه الأهم ، و لا يقصر في معرفة النقل ، فيه تبين سير الكاملين ، و إذا رزق فصاحة من حيث الوضع ، ثم أضيف إليها معرفة اللغة و النحو فقد شحذت شفرة لسانه على أجود مسن . و متى أدى العلم لمعرفة الحق و خدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح لغيره .
و ينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءاً من زمانه مصروفاً إلى توفير الإكتساب و التجارة ، مستنيباً فيها ، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتن من الإسراف و التبذير .
فإن رواية العلم و العمل به إلى درجة المعرفة لله عز وجل آسرة للمشاعر ، فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء ، و يا لها حالة سليمة من آفة . و إن وجد من طبعه منازعاً إلى الشوق في النكاح فليتخير السراري فإن الحرائر في الأغلب غل ، و ليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن و دينهن ، فإن رضيهن طلب الولد منهن ، و إلا فالإستبدال بهن سهل .
و لا يتزوج حرة إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها و التسري ، و لكن قصده الاستمتاع بها لا إجهاد النفس في الإنزال .
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الأصل .
فهذه الحالة الجامعة من لذتي الحسن و العقل ذكرتها على وجه الإشارة .
و فهم الذكي يملى عليه ما لم أشرحه .


· فصل : من قصد وجه الله بالعلم دله على الأحسن
إعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الإنهماك في الإعادة ليلاً و نهاراً ، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض .
و قد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موته ، فنظر إلى مائة كتاب و قال : [ قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد ] ، ثم خرج فقال : [ ما يجيء منه شيء ] ، فقيل له : [ ما الذي كنت تفعل ؟ ] قال : [ كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة ] .
و من الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، و كما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .
فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات .
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات ، و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق و يعيده في وقتين من النهار و الليل ، و يرزقه القوى في بقية الزمان ، و الدوام أصل عظيم .
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي .
و للحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .
و لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ، لأن ذلك يلهي .
و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .
و للخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .
و ترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ و تأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه .
تقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم ، و ألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله .
و من لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .
و إصلاح المزاح من الأصول العظيمة ، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .
قال الزهري : [ ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ ] .
و قيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .
و قال حماد بن سلمة : [ بقلة الغم ] .
و قال مكحول : من نظف ثوبه قل همه ، و من طابت ريحه زاد عقله ، و من جمع بينهما زادت مروءته .
و أختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعين سنة ، و هذا لأجل جمع الهم ، فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم . ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير .
و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، و لكن الأولى تقديم الأهم و الأفضل .
و أفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه ، و ما بعد هذا بمنزلة تابع ، و من رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل ، و من قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن و اتقوا الله و يعلمكم الله .


· فصل : التوبة النصوح


من أراد دوام العافية و السلامة ، فليتق الله عز وجل .
فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى و إن قل إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة .
و من الإغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت ، و تنسى : من يعمل سوءاً يجز به .
و ربما قالت النفس : إنه يغفر فتسامحت . و لا شك أنه يغفر و لكن لمن يشاء .
و أنا أشرح لك حالاً فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة .
و ذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها و لم يعزم عليها قبل الفعل و لا عزم على العود بعد الفعل ثم إنتبه لما فعل فإستغفر الله كان فعله و إن دخله عمداً في مقام خطأ ، مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر و يتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي ، فيكون كالغائب أو كالسكران ، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تقصد .
فهذا معنى قوله تعالى : إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .
فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها ، المصر عليها ، فكأنه في مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف ، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره .
و من البعد ألا يرى الجزاء على ذلك ، كما قال ابن الجلاء : رآني شيخي و أنا قائم أتأمل حدثاً نصرانياً ، فقال : [ ما هذا ؟ لترين غبها و لو بعد حين ، ] فنسيت القرآن بعد أربعين سنة .
و اعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب ، فإن العقوبة تتأخر .
و من أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها ، و أن تكون في سلب الدين و طمس القلوب و سوء الإختيار للنفس ، فيكون من آثارها سلامة البدن و بلوغ الأغراض .
قال بعض المعتبرين : أطلقت نظري فيما لا يحل لي ، ثم كنت أنتظر العقوبة . فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه ، فلقيت المشاق ، ثم أعقب ذلك موت أعز الخلق عندي ، و ذهاب أشياء كانت لها وقع عظيم عندي ، ثم تلافيت أمري بالتوبة فصلح حالي ، ثم عاد الهوى فحملني على إطلاق بصري مرة أخرى ، فطمس قلبي و عدمت رقته ، و أستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول ، و وقع لي تعويض عن المفقود بما كان فقده أصلح ، فلما تأملت ما عوضت و ما سلب من صحت من ألم تلك السياط .
فها أنا أنادي من على الساحل : إخواني احذروا لجة هذا البحر ، و لا تغتروا بسكونه ، و عليكم بالساحل ، و لازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة .
و إعلموا أن ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض و المشتهيات ، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة ، و التخليط ربما جلب موت الفجأة .
و بالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلاً في نيل رضاه ، و لو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم هلاكاً ، و عافيتكم مرضاً ، و صحتكم سقماً ، و الأمر بآخره ، و العاقل من تلمح العواقب .
و صابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء ، فما أسرع زواله .
و الله الموفق ، إذ لا حول إلا به ، و لا قوة إلا بفضله .


· فصل : خطر الإشتغل بعلم الكلام دون علم


قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون : ليس الله في الأرض كلام ، و هل المصحف إلا ورق و عفص و زاج ، و إن الله ليس في السماء ، و إن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء ، أي ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض . ثم يقولون : أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف و صوت ، هذا عبارة جبريل .
فلما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام ، و صار أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح ، و إلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس .
فشكا إلى جماعة من أهل السنة ، فقلت لهم : إصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات و إن كانت مدموغة ، و للباطل جولة ، و للحق صولة ، و الدجالون كثر ، و لا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان .
قال قائل : فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت : إعلم ـ و فقك الله تعالى ـ أن الله عز وجل و رسوله صلى الله عليه و سلم قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل و لم يكلفهم معرفة التفاصيل ، إما لأن الإطلاع على التفاصيل يخبط العقائد ، و إما لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك .
فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم إثبات الخالق ، و نزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه ، فقال تعالى : أمن جعل الأرض قراراً و جعل خلالها أنهاراً .
و قال تعالى : و في أنفسكم أفلا تبصرون .
و ما زال يستدل على و جوده بمخلوقاته ، و على قدرته بمصنوعاته ، ثم أثبت نبوة نبيه بمعجزاته ، و كان من أعظمها القرآن الذي جاء به ، فعجز الخلائق عن مثله ، و إكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة ، و مضى على ذلك القرآن الأول و المشرب صاف لم يتكدر ، و علم الله عز وجل ما سيكون من البدع ، فبالغ في إثبات الدلة وملأ بها القرآن .
و لما كان القرآن هو منبع العلوم ، و أكبر المعجزات للرسول ، أكد الأمر فيه فقال تعالى و هذا كتاب أنزلناه مبارك و ننزل من القرآن ما هو شفاء .
فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى : يريدون أن يبدلوا كلام الله .
و أخبر أنه مسموع بقوله تعالى : حتى يسمع كلام الله .
و أخبر أنه محفوظ فقال تعالى : في لوح محفوظ .
و قال تعالى : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم .
و أخبر أنه مكتوب و متلو ، فقال تعالى : و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك .
إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن .
ثم نزه نبيه صلى الله عليه و سلم عن أن يكون أتى من قبل نفسه . فقال تعالى : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك .
و تواعده لو فعل ، فقال تعالى : و لو تقول علينا بعض الأقاويل .
و قال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال : إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر .
و لما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام بثمود ، و إرسال الريح على عاد ، و الخسف بقارون ، و قلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلام ، و إرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة .
و تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن ، فقال تعالى : ذرني و من يكذب بهذا الحديث ذرني و من خلقت وحيداً .
و هذا لأنه أصل هذه الشرائع و المثبت لكل شريعة تقدمت . فإن جميع الملل ليس عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا ، لأن كتبهم غيرت و بدلت .
و قد علم كل ذي عقل أن القائل : إن هذا إلا قول البشر إنما أشار إلى ما سمعه .
و لا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب ، أن قوله و إنه كناية عن القرآن ، و قوله : نزل به كناية أيضاً عنه ، و قوله : هذا كتاب إشارة إلى حاضر .
و هذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم دس الشيطان دسائس البدع ، فقال قوم : هذا المشار إليه مخلوق ، فثبت الإمام أحمد رحمه الله ثبوتاً لم يثبته غيره على دفع هذا القول ، لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس ، و يخرجه عن الإضافة إلى الله عز وجل .
و رأى أن إبتداع ما لم يقل فيه لا يجوز إستعماله فقال : كيف أقول ما لم يقل .
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك ، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري فقال مرة بقول المعتزلة ، ثم عن له فإدعى أن الكلام صفة قائمه بالنفس ، فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق .
و زادت فخبطت العقائد تعالى فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم .
و الكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج و الشبه في كتب الأصول ، فلا أطيل به ههنا ، بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه ،و هو أن الشرع قنع منا بالإيمان جملة ، و بتعظيم الظواهر ، و نهى عن الخوض فيما يتير غبار شبهة ، و لا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم .
و إذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟ . .
و ما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما ، إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد ، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق .
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت و جود القرآن فقال قائل :ليس ههنا قرآن ، فقد رد الظواهر التي تعب الرسول صلى الله عليه و سلم في إثباتها ، و قرر و جودها في النفوس .
و بماذا يحل و يحرم ، و يبت و يقطع ، و ليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء .
و هل للمخالف دليل إلا أن يقول : قال الله فيعود فيثبت ما نفى ؟
فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع ، فإن إعترضه ذو شبهة فقال : هذا صوتك و هذا خطك ، فأين القرآن ؟ فليقل له : قد أجمعنا أنا و أنت على وجود شيء به نحتج جميعاً .
و كما أنك تنكر على أن أثبت شيئا لا يتحقق لي إثباته حساً ، فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعاً .
و أما قولهم : هل في المصحف إلا ورق و عفص و زاج ، فهذا كقول القائل : هل الآدمي إلا لحم و دم ؟
هيهات أن معنى الآدمي هو الروح ، فمن نظر إلى اللحم و الدم و قف مع الحس .
فإن قال : فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة : قلنا له : و هذا مما ننكره عليك لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك و لا لخصمك ، فإن أردت بالكتابة الحبر و تخطيطه فهذا ليس هو القرآن ، و إن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة .
و هذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها ، فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل كالروح مثلاً ، فإنا نعلم وجودها في الجملة ، فأما حقيقتها فلا .
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل ، فوجب الوقوف مع السمعيات ، مع نفي ما لا يليق ،لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطاً و لا يفيده تحصيلاً ، بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي ، فلا وجه للسلامة إلا طريق السلف و السلام .
و كذلك أقول إن إثبات الإله بظواهر الآيات و السنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه ، و إن كان التنزبه لازماً .
و قد كان ابن عقيل يقول : [ الأصلح فعتقاد العوام ظواهر الآي و السنن ، لأنهم يأنسون بالإثبات ، فمتى محونا ذلك من قولبهم زالت السياسات و الحشمة ] .
و تهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه ، لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات ، فيطمعوا و يخافوا شيئاً قد أنسوا إلى ما يخاف مثله و يرجى .
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي ، و لا طمع و لا مخافة من النفي .
و من تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الأعرابي : أو يضحك ربنا ؟ قال : نعم ، فلم يكفر من هذا القول .


· فصل : ابتلاء العارف مزيد من الكمال
، أعظم البلايا أن يعطيك همه عالية و يمنعك من العمل بمقتضاها ، فيكون من تاثير همتك الأنفة من قبول إرفاق الخلق استثقالاً لحمل مننهم ، ثم يبتليك بالفقر فتأخذ منهم ، و يلطف مزاجك ، فلا تقبل من المأكولات ما سهل إحضاره فتحتاج إلى فضل نفقة ، ثم يقلل رزقك و يعلق همتك بالمستحسنات ، و يقطع بالفقر السبيل إليهن .
و يريك العلوم في مقام معشوق ، و يضعف بذلك عن الإعادة ، و يخلي يديك من المال الذي تحصل به الكتب ، و يقوي توقك إلى درجات العارفين و الزهاد ، و يحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا و هذا البلاء المبين .
و اما الخسيس الهمة الذي لا يستنكف من سؤال الخلق ، و لا يرى الإستبدال بزوجته ، و يكتفي بيسير من العلم ، و لا يتوق إلى أحوال العارفين ، فذاك لا يؤلمه فقد شيء ، و يرى ما وجد هو الغاية ، فهو يفرح فرح الأطفال بالزخارف ، فما أهون الأمر عليه .
إنما البلاء على العارف ذي الهمة العالية الذي تدعوه همته إلى جميع الأضداد للتزيد من مقام الكمال ، و تقصر خطاه عن مدارك مقصودة .
فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين .
و لولا حالات غفلة تعتري هذا المبتلي يعيش بها لكان دوام ملاحظته للمقامات يعمي بصره ، و اجتهاده في السلوك يخفي قدمه .
لكن ملاحظات الإمداد له تارة ببلوغ بعض مراده ، و تارة بالغفلة عما قصد ، تهون عليه العيش .
و هذا كلام عزيز لا يفهمه إلا أربابه ، و لا يعلم كنهه إلا أصحابه .


· فصل : الحزم أولى


تراعنت علي نفسي في طلبها شيئاً من أغراضها بتأويل فاسد ، فقلت لها : بالله عليك تصبري ، فإن في المعبر شغلاً يحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر . إذا هممت بفعل فقدري حصوله ، ثم تلمحي عواقبه ، و ما تجتنين من ثمراته ، فأقل ذلك الندم على ما فعلت ، و لا يؤمن أن يثمر غضب الحق عز وجل ، و إعراضه عنك ، فأف للقاطع عنه و لو كان الجنة .
ثم إعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافاً ، و أن ميزان العدل تبين فيه الذرة ، فتلمحي الأموات و الأحياء ، و انظري إلى من نشر ذكره بالخير و الشر ، و زيادة ذلك و نقصانه .
فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها ، حتى أن حبات القلوب تتعلق بأهل الخير ،
و تنفر من أهل الشر من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل .
قال إبليس : أو تترك مرادك لأجل الخلق ؟
قلت : لا ، إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة لا عن الغرض .
و نحن نرى من يمشي ثلاثين فرسخاً ليقال ساع ، فالمتقي قد نال شرف الذكر و إن لم يقصد نيل ذلك مترجحاً له في وزن الجزاء سيجعل لهم الرحمن وداً .
النفس : لقد أمرتني بالصبر على العذاب ،لأن ترك الأغراض عذاب .
قلت : لك عن الغرض عوض ، و من كل متروك بدل ، و أنت في مقام مستعبد و لا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة في زمان الإستئجار ، و كل زمان المتقي نهار صوم .
و من خاف العقاب ترك المشتهى ، و من رام القرب إستعمل الورع ، و للصبر حلاوة تبين في العواقب .


· فصل : البعد عن أسباب الفتنة


من نازعته نفسه إلى لذة محرمة ، فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها و عقابها و سمع هتاف العقل يناديه : و يحك لا تفعل ، فإنك تقف عن الصعود ، و تأخذ في الهبوط ، و يقال لك : إبق بما إخترت ، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له ، لم يزل في نزول ، و كان مثله في سوء إختياره كالمثل المضروب : أن الكلب قال للأسد : ياسيد السباع ، غير إسمي فإنه قبيح ، فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الإسم ، قال : فجربني فأعطاه شقة لحم و قال : إحفظ لي هذه إلى غد و انا أغير إسمك ، فجاع و جعل ينظر إلى اللحم ، و يصبر ، فلما غلبته نفسه قال : و أي شيء بإسمي ؟ و ما كلب إلا إسم حسن . فأكل .
و هكذا الخسيس الهمة ، القنوع بأقل المنازل ، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل .
فا الله الله في حريق الهوى إذا ثار ، و انظر كيف تطفئه ، فرب زلة أوقعت في بئر بوار ، و رب أثر لم ينقلع ، و الفائت لا يستدرك على الحقيقة ، فابعد عن أسباب الفتنة ، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم ، و السلام .


· فصل : جهاد الشيطان
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة ، و الشياطين يرمونهم بنبل الهوى ، و يضربونهم بأسياف اللذة .
فأما المخلوق فصرعى من أول وقت اللقاء .
و أما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة ، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح ، فهم يجرحون و يداوون إلا أنهم من القتل محفوظون .
بل ، إن الجراحة في الوجه شين باق ، فليحذر ذلك المجاهدون .


· فصل : حذار من الدنيا
الدنيا فخ ، و الجاهل بأول نظرة يقع ، فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة و يدور حول الحب والسلامة بعيدة .
فكم من صابر إجتهد سنين ، ثم في آخر الأمر وقع .
فالحذر الحذر . فقد رأينا من كان سنن الصواب ، ثم زل على شفير القبر .


· فصل : عجل بالتوبة من الذنوب
إعلموا إخواني و من يقبل نصيحتي ، أن للذنوب تأثيرات قبيحة ، مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافاً مضاعفة .
و المجازي بالمرصاد ، لا يسبقه شيء ، و لا يفوته .
أو ليس يروي التفسير ، أن كل واحد من أولاد يعقوب عليهم السلام و كانوا إثنى عشر ـ ولد له إثنا عشر ولداً ، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر و جوزي بتلك الهمة فنقص ولداً .
فوا أسفاً لمضروب بالسياط ما يحسن بالألم ، و لمثخن بالجراح و ما عنده من نفسه خبر ، و لمتقلب في عقوبات ما يدري بها .
و لعمري أن أعظم العقوبة ألا يدري بالعقوبة .
فواعجباً للمغالط نفسه ، يرضي ربه بطاعة ، و يقول : حسنة ، و سيئة .
و يحك من كيسك تنفق ، و من بضاعتك تهدم ، و وجه جاهل تشين .
رب جراحة قتلت ، و رب عثرة أهلكت ، و رب فارط لا يستدرك .
و يحك انتبه لنفسك ما الذي تنتظر بأوبتك ؟ و ماذا تتقرب المشيب ؟ فها هو ذا أوهن العظم .
و هل بعد رحيل الأهل و الأولاد و الأقارب إلا اللحاق ؟
قدرأن ما تؤمله من الدنيا قد حصل ، فكان ماذا ؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلاً . ثم آخر جرعة اللذة شرقة ، و إما أن تفارق محبوبك أو يفارقك . فيا لها جرعة مريرة ، تود عندنا أن لو لم تره .
آه لمحجوب العقل عن التأمل ، و لمصدود عن الورود ، و هو يرى المنهل .
أما في هذه القبور نذير ؟ أما في كرور الزمان زاجر ؟
أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل ، نادهم في ناديهم ، هيهات صموا عن مناديهم فلو أن ما بهم الموت ، إنما هنيه . . . ثم القبور .
العمل حصل يا معدوماً بالأمس ، يا متلاشي الأشلاء في الغد ؟ بأي وجه تلقى ربك ؟ أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عتاب ؟
با الله إن الرحمة يعد المعاتبة ، ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب .
فكيف إن أعقب العتاب عقاب ، و قد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال أخبرنا محمد بن الحسين المعدل ، قال : أخبرنا أبو الفضل الزهري ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا أبو العباس بن واصل المقري ، قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال : [ رأى جار لنا يحي بن أكثم بعد موته في منامه ، فقال ما فعل بك ربك ؟ فقال : وقفت بين يديه ، فقال لي : سوء لك ياشيخ ] .
فقلت : يارب إن رسولك قال : إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم و أنا ابن ثمانين أسير الله في الأرض .
فقال لي : صدقت رسولي قد عفوت عنك .
و في رواية أخرى ،عن محمد بن سلم الخواص ، قال : [ رأيت يحي بن أكثم في المنام فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه و قال لي : يا شيخ السوء لو لا شيبتك لأحرقتك بالنار ] .
و المقصود من هذا النظر بعين الاعتبار ، هل يفي هذا بدخول الجنة فضلاًعن لذات الدنيا ؟
فنسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين ، و أن يرينا الأشياء كما هي لنعرف عيوب الذنوب و الله الموفق .


· فصل : القوي سبب الخروج من كل غم
ضاق بي أمر أوجب غماً لا زماً دائماً ، و أخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة و بكل وجه . فما رأيت طريقاً للخلاص ، فعرضت لي هذه الآية : و من يتق الله يجعل له مخرجاً . فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم . فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج .
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى و إمتثال أمره ، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج .
ثم أعجبه أن يكون من حيث لم يقدره المتفكر المحتال المدبر ، كما قال عز وجل : و يرزقه من حيث لا يحتسب .
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب ، فقد قال عز وجل : و من يتوكل على الله فهو حسبه .


تدبير الحق خير من تدبيرك
من العجب إلحالك في طلب أغراضك و كما زاد تعويقها زاد إلحاحك ، و تنسى أنها قد تمنع لأحد أمرين ، إما لمصلحتك فربما معجل أذى ، و أما لذنوبك فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة ، فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي ، و انظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك ، أو لمجرد هواك ؟
فإن كان للهوى المجرد ، فاعلم أن من اللطف بك و الرحمة لك تعويقة ، و أنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه ، فيمنع رفقاً به .
و إن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره ، أو كان صلاح الدين بعدمه .
و في الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك ، و قد يمنعك ما تهوى إبتلاء ليبلو صبرك فأره الصبر الجميل تر عن قرب ما يسر .
و متى نظفت طرق الإجابة من أدران الذنوب ، و صبرت على ما يقضيه لك ، فكل ما يجري أصلح لك ، عطاء كان أو منعاً .


· فصل : الإستعداد ليوم الرحيل


يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً ، و لا يغتر بالشباب و الصحة ، فإن أقل من يموت الأشياخ ، و أكثر من يموت الشبان و لهذا يندر من يكبر ، و قد أنشدوا :
يعمر واحد فيغر قوماً و ينسى من يموت من الشباب
و من الإغترار طول الأمل ، و ما من آفة أعظم منه ، فإنه لولا طول المل ما وقع إهمال أصلاً . و إنما يقدم المعاصي و يؤخر التوبة لطول الأمل و تبادر الشهوات ، و تنس الإنابة لطول الأمل . و إن لم تستطع قصر الأمل ، فإعمل عمل قصير الأمل و لا تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك ، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة . أو خرقاً فارقعه بإستغفار ، و إذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك . و إياك و التسويف فإنه أكبر جنود إبليس :
و خذ لك منك على مهله و مقبل عيشك لم يدبر
و خف هجمة لا تقيل العثا ر و تطوي الورود على المصدر
و مثل لنفسك أي الرعيل يضمك في حلبة المحشر
ثم صور لنفسك قصر العمر ، و كثرة الأشغال ، و قوة الندم على التفرط عند الموت ، و طول الحسرة على البدار بعد الفوت .
و صبور ثواب الكاملين و أنت ناقص ، و المجتهدين و أنت متكاسل ، و لا تخل نفسك من موعظة تسمعها ، و فكرة تحادثها بها ، فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك . و قد و الله دنستك أهواؤك ، و ضيعت عمرك .
فالبدار في الصيانة ، قبل تلف الباقي بالصبانة . فكم تعرقل في فخ الهوى جناح حازم ، و كم وقع في بئر بوار مخمور . و لا حول و لا قوة إلا الله .


· فصل : أصلح ما بينك و بين الله


الحذر الحذر من المعاصي . فإن عواقبها سيئة ، و كم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبداً مع تعثير أقدامه ، و شدة فقره و حسراته على ما تفوته من الدنيا ، و حسرة لمن نالها .
فلو قارب زمان جزائه على قبيحه الذي ارتكبه كان اعتراضه على القدر في فوات أغراضه يعيد العذاب جديداً ، فوا أسفاً لمعاقب لا يحسن بعقوبته .
و آه من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه .
أو ليس ابن سيرين يقول : [ عيرت رجلاً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة ]
و ابن الخلال يقول : [ نظرت إلى شاب مستحسن فنسيت القرآن بعد أربعين سنة ] .
فوا حسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها .
الله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء ، و الحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات ، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه ، و أصلح ما بينك و بينه في السر و قد أصلح لك أحوال العلانية .
و لا تغتر بستره أيها العاصي فربما يجذب عن عورتك ، و لا بحلمه فربما بغت العقاب .
و عليك بالقلق و اللجأ إليه و التضرع . فإن نفع شيء فذلك ، و تقوت بالحزن ، و تمزز كأس الدمع ، و احفر لمعول الأسى قليب قلب الهوى ، لعلك تنبط من الماء ما يغسل جرم جرمك .


· فصل : لا يضيع عند الله شيء
إخواني : اسمعوا نصيحة من قد جرب و خبر .
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم ، و بمقدار تعظيم قدره و احترامه يعظم أقداركم و حرمتكم .
و لقد رأيت و الله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ، ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق ، و كانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه ، و قوة مجاهدته .
و لقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته ـ مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم ـ فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ، و وصفته بما يزيد على ما فيه من الخير .
و رأيت من كان يرى الإستقامة إذا استقام ، فإذا زاغ مال عنه اللطف ، و لولا عموم الستر و شمول رحمة الكريم لا فتضح هؤلاء المذكورون ، غير أنه في الأغلب تأديب أو تلطف في العقاب كما قيل :
و من كان في سخطه محسنا فكيف يكون إذا ما رضى
غير أن العدل لا يحابي ، و حاكم الجزاء لا يجور ، و ما يضيع عند الأمين شيء .


· فصل : الزم محراب الإنابة
أيها المذنب : إذا أحسست نفحات الجزاء فلا تكثرون الضجيج ، و لا تقولن قد تبت و ندمت ، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت .
و إن للمجازاة زماناً يمتد امتداد المرض الطويل ، فلا تنجح فيه الحيل حتى ينقضي أوانه .
و إن بين زمان : و عصى إلى إبان : فتلقى مدة مديدة .
فاصبر أيها الخاطئ حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس ، فإذا عصرته كف الأسى ، ثم تكررت دفع الغسلات حكماً بالطهارة .
بقى آدم يبكي على زلله ثلاث مائة سنة .
و مكث أيوب عليه السلام في بلائه ثماني عشرة سنة .
و أقام يعقوب يبكي على يوسف عليهما السلام ثمانين سنة .
و للبلايا أوقات ثم تنصرم ، و رب عقوبة امتدت إلى زمان الموت .
فاللازم لك لأن تلازم محراب الإنابة ، و تجلس جلسة المستجدي ، و تجعل طعامك القلق ، و شرابك البكاء ، فربما قدم بشير القبول فارتد يعقوب الحزن بصيراً .
و إن مت في سجنك فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الآخرة ، و في ذلك ربح عظيم .


· فصل : أطفئ نار الذنوب بدمع الندم



الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي ، فإن نارها تحت الرماد .
و بما تأخرت العقوبة ثم فجأت ، و ربما جاءت مستعجلة ، فليبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب ، و لا ماء يطفئ تلك النار إلا ما كان من عين العين ، لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه .


· فصل : قف على باب المراقبة وقوف الحارس



واعجباً من عارف بالله عز وجل يخالفه و لو في تلف نفسه .
هل العيش إلا معه ؟ هل الدنيا و الآخرة إلا له ؟
أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب .
تالله لقد فاته أضعاف ما حصل .
أقبل على ما أقوله يا ذا الذوق ، هل وقع لك تعثير في عيش ؟ و تخبيط في حال ؟ إلا حال مخالفته :
و لا إنثنى عزمي عن بابكم إلا تعثرت بأذيالي
أما سمعت تلك الحكاية عن بعض السلف أنه قال : رأيت على سور بيروت شاباً يذكر الله تعالى فقلت له : ألك حاجة ؟
فقال : إذا وقعت لي حاجة سألته إياها بقلبي فقضاها .
يا أرباب المعاملة ، بالله عليكم لا تكدروا المشرب ، قفوا على باب المراقبة وقوف الحراس ، و ادفعوا مالاً يصلح أن يلج فيفسد ، و اهجروا أغراضكم لتحصيل محبوب الحبيب ، فإن أغراضكم تحصل .
على أنني أقول أف لمن ترك بقصد الجزاء : أهذا شرط العبودية ، كلا ؟ إنما ينبغي لي إذا كنت مملوكاً أن أفعل ليرضى لا لأعطى . فإن كنت محباً رأيت قطع الأرباب في رضاه وصلاً .
اقبل نصحي يا مخدوعاً بغرضه ، إن ضعفت عن حمل بلائه فاستغث به ، و إن آلمك كرب اختياره فإنك بين يديه ، و لا تيأس من روحه و إن قوي خناق البلاء ، بالله إن موت الخادم في الخدمة حسن عند العقلاء .
إخواني لنفسي أقول ، فمن له شرب معي فليتردد :
أيتها النفس لقد أعطاك ما لم تأملي ، و بلغك ما لم تطلبي ، و ستر عليك من قبيحك ما لو فاح ضجت المشام ، فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض ؟
أمملوكة أنت أم حرة ؟ أما علمت أنك في دار التكليف ، و هذا الخطاب ينبغي أن يكون للجهال ، فأين دعواك المعرفة ؟
أتراه لو هبت نفحة فأخذت البصر ، كيف كانت تطيب لك الدنيا ؟
وا أسفاً عليك لقد عشيت البصيرة التي هي أشرف ، و ما علمت كم أقول عسى و لعل ؟ و أنت في الخطأ إلى قدام .
قربت سفينة العمر من ساحل القبر ، و ما لك في المركب بضاعة تربح .
تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف ، ففرقت تلفيق القوى ، و كأن قد فصلت المركب ، بلغت نهاية الأجل و عين هواك تتلفت إلى الصبا .
بالله عليك لا تشمتي بك الأعداء ، هذا أقل الأقسام ، و أوفى منها ، أن أقول : بالله عليك لا يفوتنك قدم سابق مع قدرتك على قطع المضمار .
الخلوة ، الخلوة ، و استحضري قرين العقل ، و جولي في حيرة الفكر ، و استدركي صبابة الأجل ، قبل أن تميل بك الصبابة عن الصواب .
اعجباً كلما صعد العمر نزلت ، و كلما جد الموت هزلت .
أتراك ممن ختم له بفتنة ، و قضيت عليه آخر عمره المحنة ، كان أول عمرك خيراً من الأخير .
كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون .
نسأل الله عز وجل ما لا يحصل مطلوبنا إلا به ، و هو توفيقه إنه سميع مجيب .


· فصل : من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

قدرت في بعض الأيام على شهوة للنفس ، هي عندها أحلى من الماء الزلال في فم الصادي .
و قال التأويل : ما ههنا مانع ، و لا معوق إلا نوع ورع .
و كان ظاهر الأمر امتناع الجواز ، فترددت بين الأمرين ، فمنعت النفس عن ذلك ، فبقيت حيرتي لمنع ما هو الغاية في غرضها من غير صاد بحال إلا حذر المنع الشرعي .
فقلت لها : يا نفس و الله ما من سبيل إلى تودين و لا ما دونه ؟
فتقلقلت ، فصحت بها : كم وافقتك في مراد ذهبت لذته و بقي التأسف على فعله ؟ فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد ، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف زمانها ؟
فقالت : كيف أصنع ؟ فقلت :
صبرت و لا و الله مابي جلادة على الحب لكني صبرت على الرغم
و ها أنا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل ، و قد تركت باقي هذه الوجهة البيضاء ، أرجوأن أرى حسن الجزاء على الصبر ، فأسطره فيه إن شاء الله تعالى ، فإنه قد يعجل جزاء الصبر و قد يؤخره ، فإن عجل ستره ، و إن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه ، فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .
و الله إني ما تركته إلا لله تعالى ، و يكفيني تركه ذخيرة ، حتى لو قيل لي : أتذكر يوماً آثرت الله على هواك ؟ قلت : يوم كذاو كذا .
فافتخري أيتها النفس بتوفيق من و فقك ، فكم قد خذل سواك .
و احذري أن تخذلي في مقلها ، و لا حول و لا قوة إلا با الله العلي العظيم .
و كان هذا في سنة إحدى و ستين و خمسمائة ، فلما دخلت سنة خمس و ستين ، عوضت خيراً من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع و لا غيره .
فقلت : هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا ، و لأجر الآخرة خير و الحمد الله .


· فصل : افتح عين التيقظ

لا أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح ، لأنه ليس كل أحد يقوى على الترك ، إنما المحنة من طلبها فلم يجدها ، أو أكثرها ، إلا من طريق الحرام ، فاجتهد في تحصيلها ، و لم يبال كيف حصلت .
فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه ، و لم ينتفع صاحبه بوجوده لأنه لو وزن ما آثر عقابه ، طاشت كفه اللذة التي فنيت عند أول ذرة من جزائها . و كم قد رأينا ممن آثر شهوته فسلبت دينه .
فاليعجب العاقل حين التصفح لأحوالهم ، كيف آثروا شيئاً ما أقاموا معه، و صاروا إلى عقاب لا يفارقهم .
فا الله الله في بخس العقول حقها .
و لينظر السالك أين يضع القدم ، فرب مستعجل و قع في بئر بوار .
و لتكن عين التيقظ مفتوحة ، فإنكم في صف حرب لا يدري فيه من أين يتلقى النبل ، فاأعينوا أنفسكم و لا تعينوا عليها .


· فصل : متى تحقق المراقبة حصل الأنس

الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه .
فأمر بقصد نيته ، و رفع اليدين إليه ، و السؤال له . فقلوب الجهال تستشعر البعد ، و لذلك تقع منهم المعاصي ، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الكف عن الخطايا .
و المتيقظون علموا قربه فحضرهم المراقبة ، و كفتهم عن الانبساط .
و لولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ، و لا قدرت عين على نظر .
و من هذا الجنس إنه ليغان على قلبي و متى تحققت المراقبة حصل الأنس و إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة ، لأن المخالفة توجب الوحشة ، و الموافقة مبسطة المستأنسين .
فيا لذة عيش المستأنسين ، و يا خسار المستوحشين .
و ليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلاة و الصيام ، إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر و اجتناب النهي .
هذا هو الأصل و القاعدة الكلية ، فكم من متعبد بعيد ، لأنه مضيع الأصل ، و هادم للقواعد بمخالفة الأمر و ارتكاب النهي ، و إنما المحقق من أمسك ذؤابه ميزان المحاسبة للنفس ، فأدى ما عليه ، و اجتنب ما نهي عنه ، فإن رزق زيادة تنقل ، و إلا لم يضره ، و السلام .


· فصل : دوام الود بحسن الائتلاف

الدنيا في الجملة معبر فينبغي للإنسان ألا ينافس بلذاتها ، و أن يعبر الأيام بها ، فإنه لو تفكر في كيفية الذبائح ، و وسخ من يباشرها ، و عمل الكامخ و غيرها من المأكولات ما طابت له .
و لو تفكر في جولان اللقمة مختلطة بالريق ما قدر على إساغتها و المرء لا يخلو من حالين ، إما أن يريد التنعم باللذات المباحات ، أو يريد دفع الوقت بالضرورات ، و أيهما طلب فلا ينبغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه ، فإنه لو نظر إلى عورة الزوجة نبا عنها ، و قد قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا رآه مني .
فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه ، ثم يغمض عن التفتيش ليطيب له عيشه . و ينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا ، فلا تحصره إلا على أحسن حال ، و بمثل هذا يدوم العيش .
فأما إذا حصلت البذلة بانت بها العيوب ، فنبت النفس و طلبت الاستبدال ، ثم يقع في الثانية مثل ما وقع في الأولى .
وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له ، ليدوم الود بحسن الائتلاف ، و متى لم يجر الأمر على هذا في حق من له أنفه من شيء تنبو عنه النفس ، و قع في أحد أمرين : إما الإعراض عنها ، و إما الاستبدال بها .ويحتاج في حالة الإعراض إلى صبر عن أغراضه ، و في حالة الاستبدال إلى فضل مؤنه و كلاهما يؤذي . و متى لم يستعمل ما و صفنا لم يطب له عيش في متعه ، و لم يقدر على دفع الزمان كما ينبغي . 
* فصل : و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع ، و جعلت تنصب لي التأويلات ، و تدفع الكراهة ، و كانت تأويلاتها فاسدة ، و الحجة ظاهرة علىالكراهة ، فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي ، و أقبلت على القراءة ، وكان درسي قد بلغ إلى سورة يوسف فافتتحتها ، و ذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما أقرأ ، فلما بلغت إلى قوله تعالى : قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنتبهت لها و كأني خوطبت بها .
فأفقت من تلك السكرة ، فقلت : يا نفس أفهمت ؟
هذا حر بيع ظلماً فراعي حق من أحسن إليه ، و سماه مالكاً ، و إن لم يكن له عليه ملك ، فقال : إنه ربي .
ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه ، فقال : أحسن مثواي .
فكيف بك و أنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة و جودك ، و إن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصا . أفما تذكرين كيف رباك ، و علمك ، و رزقك ، و دافع عنك ، و ساق الخير إليك ، و هداك أقوام طريق ، و نجاك من كل كيد ، و ضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن .
و سهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله ، و جلى في عرصة لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك ، فتلقوها منك بحسن الظن .
و ساق رزقك بلا كافة تكلف و لا كدر من رغداً غير نزر ؟ فو الله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك ، حسن الصورة و صحة الآلات ؟ أم سلامة المزاج و اعتدال التركيب ؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة ؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر ؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش و الزلل ؟ أم تحبب طريق النقل و إتباع الأثر من غير جمود تقليد لمعظم ، و لا انخراط في سلك مبتدع ؟ و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟
كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟
كم أعطش من شراب الأماني خلقاً و سقاك ؟
كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك و أبقاك ؟
فأنت تصبحين و تمسين سليمة البدن ، محروسة الدين ، في تزيد من العلم و بلوغ الأمل ، فإن منعت مراداً فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع ، فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح .
و لو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنخ ذكره امتلأت الطروس و لم تنقع الكتابة ، و أنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر ، و أن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح ، فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه ؟ معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون .


· فصل : أجود الأشياء قطع أسباب الفتن