- فصل : أدعياء العلم
- عجبت من أقوام يدعون العلم ، و يميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها ، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا ، لأن من أمر ما جاء و مر من غير اعتراض [ و لا تعرض ] ؟ فما قال شيئاً لا له و لا عليه .
- و لكن أقواماً قصرت علومهم ، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهرة نوع تعطيل ، و لو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا .
- و ما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكتابه و قد مدحته الخنساء فقالت :
- إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
- شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها
- فلما أتمت القصيدة ، قال لكاتبه : اقطع لسانها ، فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموس .
- قالت له : و يلك إنما قال : أجزي لها العطاء .
- ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت : كاد و الله يقطع مقولي .
- فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم ، فإنه من قرأ الآيات و الأحاديث و لم يزد ، ألمه ، و هذه طريقة السلف .
- فأما من قال : الحديث يقتضي كذا ، و يحمل على كذا ، مثل أن يقول : استوى على العرش بذاته ، ينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، فهذه زيادة فهمها قائلة من الحس لا من النقل .
- و لقد عجبت لرجل أندلس يقال له ابن عبد البر ، صنف كتاب التمهيد ، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال : هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لو لا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى .
- و هذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل . لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام . فقاس صفة الحق عليه .
- فأين هؤلاء و اتباع الأثر ؟
- و لقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ، ثم عابوا المتكلمين .
- و اعلم أيها الطالب للرشاد ، أنه سبق إلينا من العقل و النقل أصلان راسخان عليهما مر الأحاديث كلها .
- أما النقل فقوله سبحانه و تعالى : ليس كمثله شيء . و من فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس .
- و أما العقل ، فإنه قد علم مباينه الصانع للمصنوعات ، و استدل على حدوثها بتغيرها ، و دخول الإنفعال عليها ، فثبت له قدم الصانع .
- واعجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام .
- أليس في الحديث الصحيح ، أن الموت يذبح بين الجنة و النار ؟
- أو ليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته ؟
- لما ثبت عند من يفهم ما هية الموت .
- فقال : الموت عرض يوجب بطلان الحياة . فكيف يمات الموت ؟
- فإذا قيل له : فما تصنع بالحديث ؟
- قال : هذا ضرب مثلاً بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى .
- قلنا له : فقد روى في الصحيح : [ تأتي البقرة و آل عمران كأنهما غمامتان ] ،
- فقال : الكلام لايكون غمامة ، و لا يتشبه بها .
- قلنا له أفتعطل النقل ؟ قال : لا ، و لكن يأتي ثوابهما .
- قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق ؟
- فقال : علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام ، و الموت لا يذبح ذبح الأنعام . و لقد علمتم سعة لغة العرب .
- ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا .
- فقال العلماء : صدقت . هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة ، و في ذبح الموت .
- فقال واعجباً لكم ، صرفتم عن الموت و الكلام ما لا يليق بهما ، حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه ، بما قددل الدليل على تنزيهه عنه ؟
- فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة . و يقول : لا أقطع حتى أقطع ، فما قطع حتى قطع .
- · فصل : لم لم يواجه الله عباده بالرحم ؟
- تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً ، مع ثبوت حكمها إجماعاً ، فوجدت لذلك معنيين :
- أحدهما : لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق ، بل ذكر الجلد ، و ستر الرجم ، و من هذا المعنى قال بعض العلماء : إن الله تعالى قال في المكروهات كتب عليكم الصيام ، على لفظ لم يسم فاعله و إن كان قد علم أنه هو الكاتب .
- فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال كتب ربكم على نفسه الرحمة .
- و الوجه الثاني : أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها بالنفوس قنوعاً ببعض الأدلة .
- فإن الإتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً . إلا أنه ليس كالدليل المتفق لأجله .
- و من هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة و السلام ، في ذبح ولده بمنام ، و إن كان الوحي في اليقظة آكد .
- · فصل : السبب و المسبب
- عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده ، عالماً بأنه لا يقدر على جلب نفعي و دفع ضري سواه .
- ثم قمت أتعرض بالأسباب ، فأنكر علي يقيني ، و قال : هذا قدح في التوكل .
- فقلت : ليس كذلك فإن الله تعالى وضعها من الحكم .
- و كان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد و إن وجوده كالعدم .
- و ما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى : و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا أسلحتهم .
- و قال تعالى : فذروه في سنبله .
- و قد ظاهر النبي صلى الله عليه و سلم بين درعين ، و شاور طبيبين ، و لما خرج إلى الطائف لم يقدر على دخول مكة ، حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال : أدخل في جوارك .
- و قد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب .
- فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب ، كان إعراضي عن الأسباب دفعاً للحكمة .
- و لهذا أرى أن التداوي مندوب إليه ، و قد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل ، و منعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أنزل الله داء إلا و أنزل له دواء فتداووا .
- و مريبة هذه اللفظة الأمر ، و الأمر إما أن يكون واجباً ، أو ندباً . و لم يسبقه حظر ، فيقال : هو إباحة .
- و كانت عائشة رضي الله عنها تقول : [ تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ما ينعت له ] .
- و قال عليه الصلاة و السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا .
- و من ذهب إلى تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة السلام : يدخل الجنة سبعون ألفاً بلا حساب . ثم وصفهم فقال : لا يكتون ، و لا يسترقون ، و لا يتطيرون ، و على ربهم يتوكلون .
- و هذا لا ينافي التداوي ، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا و يسترقون لئلا تصبهم نكبة ، و قد كوى عليه الصلاة السلام بن زرارة و رخص في الرقية في الحديث الصحيح . فعلمنا أن المراد ما أشرنا أليه .
- و إذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع ، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي ، و شرب ماء التمر هندي أوفق ، و هذا طب .
- فإذا لم أشرب ما يوافقني ، ثم قلت : اللهم عافني ، قالت لي الحكمة ، أما سمعت : [ اعقلها و توكل ؟ ] اشرب و قل عافني ، و لا تكن كمن بين زرعه و بين النهر كف من تراب ، تكاسل أن يرفعه بيده ، ثم قام يصلي صلاة الإستسقاء . و ما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد ، و إنما سافر على التجريد لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أولا ، و قد تقدم الأمر إليه : و تزودوا فقال : لا أتزود ، فهذا هالك قبل أن ، يهلكه .
- و لو جاء وقت صلاة و ليس معه ماء ، ليم على تفريطه ، و قيل له : هلا استصحبت الماء قبل المفازة .
- فالحذر الحذر من أفعال أقوام دققوا فمرقوا عن الأوضاع الدينية ، و ظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع ، و المخالفة للأوضاع .
- و لولا قوة العلم و الرسوخ فيه ، لما قدرت على شرح هذا و لا عرفته ، فافهم ما أشرت إليه ، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها ، و كن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو .
- · فصل : الإسلام نظافة
- تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال إبدانهم ، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال بعد الأكل .
- و منهم من لا ينفي يديه في غسلها من الزهم ، و منهم من لا يكاد يستاك ، و فيهم من لا يكتحل ، و فيهم من لا يراعي الإبط ، إلى غير ذلك ، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين و الدنيا .
- أما الدين فإنه قد أمر المؤمن بالتنظف و الإغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالناس ، و نهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم ، و أمر الشرع بتنقية البراجم و قص الأظافر ، و السواك ، و الإستحداد و غير ذلك من الآداب . فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع ، و ربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة ، مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل .
- و أما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم ، يتقدمون إلى السرار ، و الغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم ، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم .
- فإذا أخذوا في مناجاة السر ، لم يمكن أن أصدف عنهم ، لأنهم يقصدون السر ، فألقى الشدائد من ريح أفواههم .
- و لعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه .
- ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة ، و قد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل ، فيثمر ذلك التفافها عنه .
- و قد كان ابن عباس رضي الله عنها يقول : [ إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي ] . و في الناس من يقول : هذا تصنع . و ليس بشيء فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا ، لأن للعين حظاً في النظر ، و من تأمل أهداب العين و الحاجبين ، و حسن ترتيب الخلقة ، علم أن الله زين الأدمي .
- و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم أنظف الناس و أطيب الناس ، و في الحديث عنه يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه ، و كان ساقه ربما انكشفت فكأنهما جمارة .
- و كان لا يفارقه السواك ، و كان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة .
- و في حديث أنس الصحيح : [ ما شأنه الله ببيضاء ] .
- و قد قالت الحكماء : [ من نظف ثوبه قل همه ، و من طاب ريحه زاد عقله ] .
- و قال عليه الصلاة السلام لأصحابه : ما لكم تدخلون علي قلحاً ، استاكوا .
- و قد فضلت الصلاة بالسواك ، على الصلاة بغير سواك ، فالمتنظف ينعم نفسه ، و يرفع منها عندها .
- و قد قال الحكماء : [ من طال ظفره قصرت يده ، ثم إنه يقرب من قلوب الخلق ، و تحبه النفوس ، لنظافته و طيبه ] .
- و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب الطيب .
- ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال . فإن النساء شقائق الرجال ، فكما أنه يكره الشيء منها ، فكذلك هي تكرهه ، و ربما صبر هو على ما يكره و هي لا تصبر .
- و قد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد . و هم من أقذر الناس ، و ذلك أنهم ما قومهم العلم .
- و أما ما يحكى عن داود الطائي أنه قيل له : لو سرحت لحيتك ، فقال : إني عنها مشغول .
- فهذا قول معتذر عن العمل بالسنة ، و الإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الآخرة و لو كان مفيقاً لذلك لم يتركه ، فلا يحتج بحال المغلوبين .
- و من تأمل خصائص الرسول صلى الله عليه و سلم ، رأى كاملاً في العلم و العمل ، فيه يكون الإقتداء و هو الحجة على الخلق .
- · فصل : خطر الرفاهية
- تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر و البرد . فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة . و إنما تحصل مجرد لذة و لا خير في لذة تعقب ألما .
- فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج ، و ذلك على غاية في الضرر ، و أهل الطب يقولون : إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة و يضعون الخيوش المضاعفة . و في البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد .
- و هذا من حيث الحكمة يضاد ما وضعه الله تعالى . فإنه جعل الحر لتحلل الأخلاط ، و البرد لجمودها ، فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً . فتنعكس الحكمة التي وضع الحر و البرد لها ، و يرجع الأذى على الأبدان .
- و لا يظنن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر و البرد .
- و إنما أقول له : لا يفرط في التوقي ، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الأخلاط ، إلى حد لا يؤثر في القوة ، و في البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب لا المؤذي ، فإن الحر و البرد لمصالح البدن .
- و قد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر و البرد فتغيرت حالته فمات عاجلاً ، و قد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب .
- · فصل : الصبر و الرضى
- ليس في التكاليف أصعب من الصبر على القضاء ، و لا فيه أفضل من الرضى به . فأما الصبر : فهو فرض . و أما الرضى فهو فضل .
- و إنما الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس ، و ليس مكروه النفس يقف على المرض و الأذى في البدن ، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر .
- فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال ، فهو يصوغه أواني يستعملها . و معلوم أن البلور و العقيق و الشبة ، قد يكون أحسن منها صورة ، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه . و يلبس الحرير ، و يظلم الناس ، و الدنيا منصبة عليه .
- ثم يرى خلقاً من أهل الدين ، و طلاب العلم ، مغمورين بالفقر و البلاء ، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم . فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ، و يبتدئ بالقدح في حكمة القدر .
- فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا ، و على جدال إبليس في ذلك .
- و كذلك في تسليط الكفار على المسلمين ، و الفساق على أهل الدين .
- و أبلغ من هذا إيلام الحيوان ، و تعذيب الأطفال ، ففي مثل هذه المواطن يتمحض الإيمان و مما يقوي الصبر على الحالتين النقل و العقل .
- أما النقل فالقرآن و السنة ، أما القرآن فمنقسم إلى قسمين :
- أحدهما : بيان سبب إعطاء الكافر و العاصي ، فمن ذلك قوله تعالى : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً .
- و لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة .
- و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها .
- و في القرآن من هذا كثير .
- و القسم الثاني : ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
- أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا .
- أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
- و في القرآن من هذا كثير .
- و أما السنة فمنقسمة إلى قول و حال .
- أما الحال : فإنه صلى الله عليه و سلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه ، فبكى عمر رضي الله عنه . و قال : كسرى و قيصر في الحرير و الديباج ، فقال له صلى الله عليه و سلم : أفي شك أنت يا عمر ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة و لهم الدنيا .
- أما القول فقوله عليه الصلاة و السلام : لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
- و أما العقل : فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود ، منها أن يقول : قد ثبت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر . . فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللا .
- و منها أن يقول : ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى ، و ما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى ، لأن ذلك البسط يوجب عقاباً طويلاً ، و هذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً ، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب و المراحل تطوى و الركبان في الحثيث .
- و منها أن يقول : قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير ، و أن زمن التكليف كبياض نهار ، و لا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب ، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل ، فإذا فرغ تنظف و لبس أجود ثيابه ، فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة ، و عوقب على التواني فيما كلف ، فهذه النبذة تقوي أزر الصبر .
- و أزيدها بسطاً فأقول : أترى إذا أريد اتخاذ شهداء ، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين ، أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟ و بعلي مثل ابن ملجم : أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر ، و لو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا ، لرأيت المسبب لا الأسباب ، و المقدر لا الأقدار ، فصبرت على بلائه ، إيثاراً لما يريد ، و من ههنا ينشأ الرضى .
- كما قيل لبعض أهل البلاء : ادع الله بالعافية ، فقال : أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل .
- إن كان رضاكم في سهري فسلام الله على وسني
- · فصل : من ذاق طعم المعرفة وجد طعم المحبة
- لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم ، هتف بي هاتف من باطني : دعني من شرح الصبر على الأقدار ، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت .
- وصف حال الرضى ، فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح .
- فقلت : أيها الهاتف اسمع الجواب . و افهم الصواب .
- إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة ، فإذا عرفته رضيت بقضائه ، و قد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي .
- أما العارف فتقل عنده المرارة ، لقوة حلاوة المعرفة .
- فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة ، صارت مرارة الأقدار ، حلاوة ، كما قال القائل :
- عذابه فيك عذب و بعده فيك قرب
- و أنت عندي كروحي بل أنت منها أحب
- حسبي من الحب أني لما تحب أحب
- و قال بعض المحبين في هذا المعنى :
- و يقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا
- فصاح بي الهاتف : حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض و الفقر ، أفأرضى بالكسل عن خدمته ، و البعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى ، مما لا يدخل ؟
- فقلت له : نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع و هو شهيد .
- إرض بما كان منه ، فأما الكسل و التخلف فذاك منسوب إليك ، فلا ترض به من فعلك .
- و كن مستوفياً حقه عليك ، مناقشاً نفسك فيما بقربك منه ، غير راض منها بالتواني في المجاهدة .
- فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها ، فكن راضياً بها ، كما قالت رابعة ـ رحمة الله عليها ـ و قد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل ، فقيل : هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ فقالت : إن الراضي لا يتحيز و من ذاق طعم المعرفة ، وجد فيه طعم المحبة ، فوقع الرضى عنده ضرورة .
- فينبغي الإجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة ، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة ، لعل ذلك يورث المحبة .
- فقد قال سبحانه و تعالى : لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه . فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به .
- فذلك الغنى الأكبر .. و وافقراه ... !!!
- · فصل : لا تشغل عن معاشك
- رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم من زمن الصبا عن المعاش ، فيحتاجون إلى ما لا بد منه ، فلا يصلهم من بيت المال شيء ، و لا من صلات الإخوان ما يكفي ، فيحتاجون إلى التعرض بالإذلال ، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين :
- أحدهما : قمع إعجابهم بهذا الإذلال ، و الثاني : نفع أولئك بثوابهم .
- ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة ، و هو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك ، لم تساكنها بالقلب ، ونبت عنها بالعزم ، و رأت أقرب الأشياء شبهاً بها ، مزبلة عليها الكلاب ، أو غائطاً يؤتي لضرورة .
- فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار ، لم يكن للقلب بها متعلق متمكن فتهون حينئذ .
- · فصل : روحوا القلوب تعي الذكر
- ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذاانبسطوا في مباحات . و الذي يحملهم على هذا الجهل . فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم . و هذا لأن الطياع لا تتساوى ، قرب شخص يصلح على خشونة العيش ، و اخر لا يصلح على ذلك ، و لا يجوز لحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو .
- غير أن لنا ضابطاً هو الشرع ، فيه الرخصة و فيه العزيمة . فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط . و رب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها .
- و لو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة با الله فتنبت القلوب من خوفه ، و تنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف بالأجسام حفظاً لقوة الراحة .
- و لأن آلة العلم و الحفظ : القلب و الفكر ، فإذا رفهت لآلة جاد العمل ، و هذاأمر لا يعلم إلا بالعلم .
- فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا ، و ظنوا أن المراد إتعاب الأبدان ، و إنضاء الرواحل ، و ما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة ، كما قال القائل : روحوا القلوب تعي الذكر .
- · فصل : من أخطاء الصوفية
- ليس في الوجود شيء أشرف من العلم ، كيف لا و هو الدليل ، فإذا عدم و قع الضلال .
- و ان من خفي مكايد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل التعبد و هو العلم ، حتى إنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم و رموها في البحر . و هذا قد ورد عن جماعة . و أحسن ظني بهم أن أقول :كان فيها شيء من رأيهم و كلامهم فما حبوا انتشاره.
- و إلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه ، كان رميها إضاعة . للمال لا يحل .
- و قد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل المحابر تلامذتهم .
- و حتى قال جعفر الخلدي : لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا ، كتبت مجلساً عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال : [ دع علم الورق ، و عليك بعلم الخرق ] .
- و رأيت محبرة مع بعض الصوفية . فقال له صوفي آخر : [ استر عورتك ] ـ و قد انشدوا للشبلي :
- إذا طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق
- و هذا من خفي حيل إبليس ، و لقدصدق عليهم إبليس ظنه ، و إنما فعل و زينة عندهم لسببين :
- أحدهما : أنه أرادهم يمشون في الظلمة .
- و الثاني : أن تصفح العلم كل يوم يزيد في العالم . و يكشف له ما كان خفي عنه ، و يقوي إيمانه و معرفته ، و يريه عيب كثير من مسالكه ، إذا تصفح منهاج الرسول صلى الله عليه و سلم ، و الصحابة .
- فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة ، فأظهر أن المقصود العمل ، لا العلم لنفسه ، و خفي على المخدوع أن العلم عمل و أي عمل .
- فاحذر من هذه الخديعة الخفية ، فإن العلم هو الأصل الأعظم ، و النور الأكبر .
- و ربما كان تقليب الوراق أفضل من الصوم و الصلاة ، و الحج و الغزو .
- و كم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده ، و يضيع كثيراً من الفرض بالنقل ، و يشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب .
- و لو كانت عنده شعلة من نور العلم لا هتدى ، فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء الله تعالى .
- · فصل : كيف تقوى النفس
- مر بي حمالان جذع ثقيل ، و هما يتجاوبان بانشاد النغم ، و كلمات الإستراحة .
- فأحدهما يصغى إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله ، و الآخر همته مثل ذلك .
- فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما ، و ثقل الأمر ، و كلما فعلا هذا هان الأمر .
- فتأملت السبب في ذلك ، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما يقوله الآخر ، و طربه به ، و إحالة فكره في الجواب بمثل ذلك ، فينقطع الطريق ، و ينسى ثقل المحمول .
- فأخذت من هذا إشارة عجيبة ، و رأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة ، و من أثقل ما حمل مداراة نفسه ، و تكليفها الصبر عما تحب ، و على ماتكره . فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية و التلطف للنفس ، كما قال الشاعر :
- فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح و عدها بالروح ضحى
- و من هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمه الله عليه ، سار و معه رجل في طريق فعطش صاحبه ، فقال له : نشرب من هذا البئر ؟ فقال بشر : اصبر إلى البئر الأخرى ، فلما و صلا إليها قال له : البئر الأخرى .
- فما زال يعلله . . . ثم التفت إليه فقال له : [ هكذا تنقطع الدنيا ] .
- و من فهم هذا الأصل علل النفس و تلطف بها و وعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت ، كما كان بعض السلف يقول لنفسه : و الله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك .
- و قال أبو يزيد رحمه الله عليه : ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى و هي تبكي حتى سقتها و هي تضحك .
- و اعلم أن مداراة النفس و التلطف بها لازم ، و بذلك ينقطع الطريق ، فهذا رمز إلى الإشارة ، وشرحه يطول .
- · فصل : دع التصنع في الوعظ
- تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ ، يعتقدها العوام و جهال العلماء قربة و هي منكر و بعد .
- و ذاك أن المقرئ يطرب و يخرج الألحان إلى الغناء ، و الواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون و ليلى ، فيصفق هذا ، و يخرق ثوبه هذا ، و يعتقدون أن ذلك قربة و معلوم أن هذه الألحان كالموسيقى ، توجب طرباً للنفوس و نشوة ، فالتعرض بما يوجب الفساد غلط عظيم .
- و ينبغي الإحتساب على الوعاظ في هذا ، و كذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون الأحزان ليكثر بكاء النساء ، فيعطون على ذلك الأجرة .
- و لو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك ، و هذه أضداد للشرع .
- قال ابن عقيل : [ حضرنا عزاء رجل قد مات ، فقرأ المقرئ : يا أسفى على يوسف فقلت له : [ هذه نياحة بالقرآن ] .
- و في الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة و المحبة ، فترى الحائك و السوقي الذي لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى .
- و الصافي حالاً منهم ـ و هو أصلحهم ـ يتخايل بوهمه شخصاً هو الخالق فيبكيه شوقه إليه لما يسمع من عظمته و رحمته و جماله .
- و ليس ما يتخايلونه المعبود ، لأن المعبود لا يقع في خيال .
- و بعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب ، و لا يكادون ينتفعون بمر الحق إلا أن الواعظ مأمور بألا يتعدى الصواب ، و لا يتعرض لما يفسدهم ، بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه ، و هذا يحتاج إلى صناعة ، فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ ، و منهم من يعجبه الإشارة ، و منهم من ينقاد ببيت من الشعر .
- و أحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم ، لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب ، و أن يعطيهم من المباح في اللفظ ، قدر الملح في الطعام ، ثم يجتذبهم إلى العزائم ، و يعرفهم الطريق الحق .
- و قد حضر أحمد بن حنبل ، فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى ، ثم قال : [ لا يعجبني الحضور ] ، و إنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء .
- و قد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص ، فينهون عن الحضور عندهم .
- و هذا على الإطلاق لا يحسن اليوم ، لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم ، فرأوا حضور القصص صاداً لهم ، و اليوم كثر الإعراض عن العلم ، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ ، يرده عن ذنب ، و يحركه إلى توبة ، و إنما الخلل في القاص ، فليتق الله عز وجل .
- · فصل : إحذر من مزالق علم الكلام
- من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين ، و النفاة للصفات و الإضافات فإن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق ، فإن النفوس تأنس بالإثبات ، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي ، طرد عن قلبه الإثبات ، فكأن أعظم ضرر عليه ، و كان هذا المنزه من العلماء على زعمه ، مقاماً لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالمحو و شارعاً في إبطال ما يفتون به .
- و بيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش ، فأنست النفوس إلى إثبات الإله و وجوده ، قال تعالى : و يبقى وجه ربك و قال تعالى : بل يداه مبسوطتان و قال غضب الله عليهم رضي الله عنهم و أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ، و قال : [ قلوب العباد بين أصبعين ، ] و قال : كتب التوراة بيده ، و كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش ، إلى غير ذلك مما يطول ذكره .
- فإذا امتلأ العامي و الصبي من الإثبات ، و كاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس ، قيل له : ليس كمثله شيء فمحا من قلبه ما نقشه الخيال ، و تبقى ألفاظ الإثبات متمكنة .
- و لهذا أقر الشرع مثل هذا ، فسمع منشداً يقول : و فوق العرش رب العالمين ، فضحك .
- و قال له آخر : أو يضحك ربنا ؟ فقال : نعم . و قال : إنه على عرشه هكذا . كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس .
- و أكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد ، فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه .
- فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ من فهم الإثبات ، فقلنا : ليس في السماء و لا على العرش ، و لا يوصف بيد ، و كلامه صفة قائمة بذاته ، و ليس عندنا منه شيء ، و لا يتصور نزوله ، انمحى من قلبه تعظيم المصحف ، و لم يتحقق في سره إثبات إله .
- هذه جناية عظيمة على الأنبياء ، توجب نقض ما تعبوا في بيانه ، و لا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها ، فإنه يفسده و يصعب صلاحه .
- فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفي عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى ، و أنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم ، و لا يجوز أن يكون محمولاً ، و لا يوصف بملاصقة و مس ، و لا أن ينتقل .
- لا يخفي عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يديره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية .
- و لا يحتاج إلى تأويل من قال : الإصبع الأثر الحسن ، فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية ، و هما : الإقامة ، و الإزاغة .
- و لا إلى تأويل من قال : يداه نعمتاه ، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات و قد حدثنا بما نعقل ، و ضربت لنا الأمثال بما نعلم ، و قد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس ، علمنا المقصود بذكر ذلك .
- و أصلح ما نقول للعوام : أمروا هذه الأشياء كما جاءت ، و لا تتعرضوا لتأويلها ، بل ذلك يقصد به حفظ الإثبات ، و هذا الذي قصده السلف .
- و كان أحمد يمنع من أن يقال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ، كل ذلك ليحمل على الأتباع ، و تبقى ألفاظ الإثبات على حالها .
- و أجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه و سلم تعظيمه ، فأضعف في النفوس قوى التعظيم .
- قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ـ يشير إلى المصحف ـ .
- و منع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيماً له .
- فإذا جاء متحذلق فقال : الكلام صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم ، فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع . ينبغي أنم يفهم أوضاع الشعر و مقاصد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ، و قد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع ، فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكلام في القدر و نهى عن الإختلاف ، لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول : قضى و عاقب ، تزلزل إيمانه بالعدل .
- و إن قال : لم يقدر و لم يقض . تزلزل بالقدرة ، و الملك ، فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء .
- و لعل قائلاً يقول : هذا منع لنا عن الإطلاع على الحقائق ، و أمر بالوقوف مع التقليد .
- فأقول : لا ، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل ، و ما أمرت بالتنقير مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق .
- فإن الخليل عليه الصلاة و السلام قال : أرني كيف تحي ، فأراه ميتاً حي و لم يره كيف أحياه ، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك .
- و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم و هو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ، يقنع من الناس بنفس الإقرار و اعتقاد الجمل .
- كذلك كانت الصحابة ، فما نقل عنهم إنهم تكلموا في تلاوة و متلو ، و قراءة و مقروء ، و لا إنهم قالوا استوى بمعنى استولى ، و يتنزل بمعنى يرحم .
- بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس ، و كفوا كف الخيال بقوله : ليس كمثله شيء .
- ثم هذا منكر و نكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ .
- و من فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة ، و تعطيل العطلة ، و وقف علىجادة السلف الأول ، و الله الموفق .
- · فصل : السمع و البصر
- قرأت هذه الآية : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به فلاحت لي فيها إشرة كدت أطيش منها .
- و ذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع و البصر ، فإن السمع آلة لإدراك المسموعات ، و البصر آلة لإدراك المبصرات ، فهما يعرضان ذلك على القلب ، فيتدبر ، و يعتبر .
- فإذا عرضت المخلوقات على السمع و البصر ، أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق ، و تحمل على طاعة الصانع ، و تحذر من بطشه عند مخالفته .
- و إن عنى معنى السمع و البصر ، فذلك يكون بذهولها عن حقائق ما أدركا ، شغلا بالهوى ، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات ، فيرى و كأنه ما رأى ، و يسمع كأنه ما سمع ، و القلب ذاهل عما يتأدى به لا يدري ما يراد به ، لا يؤثر عنده أنه يبلى ، و لا تنفعه موعظة تجلى ، و لا يدري أين هو ، و لا ما المراد منه ، و لا إلى أين يحمل ، و إنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته و لا بتفكر في خسران آجلته ، لا يتعبر برفيقه ، و لا يتعظ بصديقه ، و لا يتزود لطريقة كما قال الشاعر :
- الناس في غفلة و الموت يوقظهم و ما يفيقون حتى ينفذ العمر
- يشيعون أهاليهم بجمعهم و ينظرون ما فيه قد قبروا
- و يرجعون إلى أحلام غفلتهم كأنهم ما رأوا شيئاً و لا نظروا
- و هذه حالة أكثر الناس ، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات ، فإنها أقبح الحالات .
- · فصل : العشق الإلهي
- نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق و أسبابه و أدويته و صنفت في ذلك كتاباً سميته بذم الهوى .
- و ذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا : سبب العشق حركة نفس فارغة ، و أنهم اختلفوا .
- فقال قوم منهم : لا يعرض العشق إلا لظراف الناس .
- و قال آخرون : بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق .
- إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحهه ههنا :
- و هو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد . فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها ، إما بالفكر فيه أو بالمخالطة له ، تسلت أنفسهم و تعلقت بمطلوب آخر .
- فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة ، العامي عن عيوبها ، إلا جامداً واقفاً .
- و أما أرباب الأنفة من النقائص ، فإنهم أبداً في الترقي ، لا يصدهم صاد ، فإذا علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر ، بل ربما مالوا ميلاً شديداً إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة و الاطلاع على العيوب ، و إما لتشتت بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين ، كالظريف مع الظريف ، و الفطن مع الفطن ، فيوجب ذلك المحبة .
- فأما العشق فلا فهم أبداً في السير فلا يوقف وابل الطبع تتبع حادي الفهم ، فإن للطبع متعلقاً لا تجده في الدنيا ، لأنه يروم مالا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص ، فإذا تلمح عيوبها نفر .
- و أما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواء . و إن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين ، غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره .
- و صارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب و محبتها كما قالت رابعة :
- أحب حبيباً لا أعاب بحبه و أحببيهم من في هواه عيوب
- و لقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بإمرأة فأعجبته ، فخطبها إلى أبيها ، فزوجه و جاء به إلى المنزل و ألبسه غير خلقانه .
- فلما جن الليل صاح الفقير : ثيابي ثيابي . فقدت ما كنت أجده ، فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة .
- و إنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل و أهل الأنفة من الرذائل .
- و قد قال ابن مسعود : [ إذا أعجبت أحدكم إمرأة فليتذكر مثانتها ] .
- و مثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم و بلعه .
- و يذهل عند الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة ، و ينسى عند بلع الرضاب إستحالته عن الغذاء ، و في تغطية تلك الأحوال مصالح .
- إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم من غير طلب له في غالب أحوالهم ، فينغض لذيذ العيش ، و يوجب الأنفة من رذالة الهوى .
- و على قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق ، و على قدر جمود الذهن يقوى القلق ، قال المتنبي :
- لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسببه لم يسبه
- و مجموع ما أرادت شرحه ، أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن .
- و سبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص و عيوبه ، أو في طلب ما هو أهم منه .
- و قلوب العارفين تترقى إلى معروفها ، فتعبر في معبر الإعتبار .
- فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين ، و غفلتهم عن المقامين ، يوجب أسرهم و قسرهم و حيرتهم .
- · فصل : دعاء الخاشعين
- عرض لي أمر يحتاج إلى سؤال الله عز وجل و دعائه ، فدعوت و سألت فأخذ بعض أهل الخير يدعون معي ، فرأيت نوعاً من أثر الإجابة .
- فقالت لي نفسي : هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك ، فقلت لها : أما أنا فإني أعرف من نفسي من الذنوب و التقصير ما يوجب منع الجواب ، غير أنه لا يجوز أن يكون أنا الذي أجبت ، لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي ، لأن معي إنكسار تقصيري و معه الفرح بمعاملته .
- و ربما كان الإعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج ، على أنني أنا و هو نطلب من الفضل ، لا بأعمالنا ، فإذا وقفت أنا على قدم الإنكسار معترفاً بذنوبي و قلت أعطوني بفضلكم فمالي في سؤالي شيء أمت به . و ربما تلمح ذاك حسن عمله و كان صاداً له . فلا تكسريني أيتها النفس فيكفيني كسر علمي بي لي .
- و معي من العلم للأدب ، و الإعتراف بالتقصير ، و شدة الفقر إلى ما سألت ، و يقيني بفضل المطلوب عنه ، ما ليس مع ذلك العابد . فبارك الله في عبادته . فربما كان إعترافي بتقصيري أوفى .
- · فصل : قمة التدبر
- قرأت من غرائب العلم ، و عجائب الحكم ، على بعض من يدعي العلم ، فرأيته يتلوى من سماع ذلك ، و لا يطلع على غوره ، و لا يشرئب إلى ما يأتي ، فصدفت عن إسماعه شيئاً آخر و قلت : إنما يصلح مثل هذا الذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء .
- ثم أخذت من هذه إشارة هي أنه لو كان هذا يفهم ما جرى و مدحني لحسن ما صنعت لعظم قدره عندي ، و لأريته محاسن مجموعاتي و كلامي . و لكنه لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه ، و صدفت بنظري إليه .
- و كانت الإشارة : أن الله عز وجل ، قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب ، و أحكم الترتيب ، ثم عرضها على الألباب ، فأي لب أو غل في النظر مدح على قدر فهمه فأحبه المصنف ، و كذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم ، فمن فتشه بيد الفهم . و حادثة في خلوة الفكر ، استجلب رضى المتكلم به و حظي بالزلفى لديه .
- و من كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات ، صرف عن ذلك المقام . قال الله عز وجل : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق .
- · فصل : الهمة العالية
- دعوت يوماً فقلت : اللهم بلغني آمالي من العلم و العمل ، و أطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك .
- فعارضني وسواس من إبليس ، فقال : ثم ماذا ؟ أليس الموت ؟ فما الذي ينفع طول الحياة ؟ .
- فقلت له : يا أبله : لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث .
- أليس في كل يوم يزيد علمي و معرفتي فتكثر ثمار غرسي ، فأشكر يوم حصادي ؟ .
- أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة ؟ لا و الله ، لأني ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم .
- كل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية ، و ارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة ، و اطلعت على علوم زاد بها قدري ، و تجوهرت بها نفسي .
- ثم زاد غرسي لآخرتي ، و قويت تجارتي في إنفاذ المباضعين من المتعلمين و قد قال الله لسيد المرسلين : و قل رب زدني علماً .
- و في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً .
- و في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من السعادة أن يطول عمر العبد و يرزقه الله عز وجل الإنابة .
- فيا ليتني قدرت على عمر نوح ، فإن العلم كثير ، و كلما حصل منه حاصل رفع و نفع .
- · فصل : في الأسباب و المسببات
- قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب و إن كانت لا تساكنها لأنها لما إنفردت لمعرفتها أنفرد لها بتولي أمورها .
- فإذا تعرضت بالأسباب محى أثر الأسباب : و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً .
- و تأمل في حال يعقوب و حذره على يوسف عليهم السلام ، حتى قال : أخاف أن يأكله الذئب فقالوا : أكله الذئب .
- فلما جاء أوان الفرج ، خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح إني لأجد ريح يوسف .
- و كذلك قول يوسف عليه السلام للساقي : اذكرني عند ربك فعوقب بأن لبث سبع سنين ، و إن كان يوسف عليه السلام يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله ، و أن التعرض بالأسباب مشروع ، غير أن الغيرة أثرت في العقوبة .
- و من هذا قصة مريم عليها السلام و كفلها زكريا فغار المسبب من مساكنة الأسباب كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً .
- و من هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب .
- و الأسباب طريق ، و لا بد من سلوكها . و العارف لا يساكنها غير أنه يجلي له من أمرها ما لا يجلي لغيره ، من أنها لا تساكن ، و ربما عوقب إن مال إليها و إن كان ميلاً لا يقبله ، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب ، و تأمل عقبي سليمان عليه السلام لما قال : [ لأطوقن الليلة على مائة إمرأة ، تلد كل واحدة منهن غلاماً و لم يقل : إن شاء الله ، فما حملت إلا واحدة جاءت بشق غلام ] .
- و لقد طرقني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب إلا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة ، و مداراته بكلمة . فبينا أنا أفكر في تلك الحال دخل علي قارئ فاستفتح فتفاءلت بما يقرأ فقرأ و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .
- فبهت من إجابتي على خاطري ، و قلت لنفسي : إسمعي فإنني طلبت النصر في هذه المداراة فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم فاتنى ما ركنت لأجله من النصر .
- فيا طوبى لمن عرف المسبب و تعلق به ، فإنها الغاية القصوى ، فنسأل الله أن يرزقنا .
- · فصل : المؤمن و الذنب
- المؤمن لا يبالغ في الذنوب و إنما يقوى الهوى و تتوقد نيران الشهوة فينحدر .
- و له مداد لا يعزم المؤمن على مواقعته ، و لا على العود بعد فراغه . و لا يستقصي في الإنتقام إن غضب ، و ينوي التوبة قبل الزلل .
- و تأمل إخوة يوسف عليهم السلام فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف فقالوا : اقتلوا يوسف ثم زاد ذلك تعظيماً فقالوا : أو اطرحوه أرضاً ثم عزموا على الإنابة فقالوا : و تكونوا من بعده قوماً صالحين . فلما خرجوا إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد .
- فقال كبيرهم : لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب و لم يرد أن يموت بل يلتقطه بعض السيارة ، فأجابوا إلىذلك .
- و السبب في هذه الأحوال أن الإيمان على حسب قوته ، فتارة يردها عند الهم ، و تارة يضعف فيردها عند العزم ، و تارة عن بعض الفعل ، فإذا غلبت الغفلة ، و واقع لذنب ، فتر الطبع ، فنهض الإيمان للعمل ، فينغص بالندم أضعاف ما التذ .
- · فصل : الغرور في العلم
- أفضل الأشياء التزيد من العلم ، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافياً استبد برأيه ، و صار تعظيمه لنفسه مانعاً له من الاستفادة . و المذاكرة تبين له خطأه ، و ربما كان معظماً في النفوس فلم يتجاسر على الرد عليه .
- و لو أنه أظهر الاستفادة لأهديت إليه مساويه فعاد عنها .
- و لقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني أنه قال : [ إن الله تعالى يعلم جمل الأشياء و لا يعلم التفاصيل ] ، و لا أدري أي شبهة وقعت ، في وجه هذا المسكين حتى قال هذا .
- و كذلك أبا حامد حين قال : النزول التنقل ، و الاستواء مماسة ـ و كيف أصف هذا بالفقه ، أو هذا بالزهد ، و هو لا يدري ما يجوز على الله مما لا يجوز .
- و ل أنه ترك تعظيم نفسه لرد صبيان الكتاب رأيه عليه ، فبان له صدقهم .
- و من هذا الفن أبو بكر بن مقسم : فإنه عمل كتاب الاحتجاج للقراء ، فأتى فيه بفوائد ، إلا أنه أفسد علمه بإجازته أن يقرأ بما لم يقرأ به ، ثم تفاقم ذلك منه حتى أجاز ما يفسد المعنى ، مثل قوله تعالى : فلما استيأسوا منه خلصوا . فقال : يصلح أن يقال هنا نجياً أي خلصوا كراماً براد من السرقة .
- و هذا سوء فهم للقصة ، فإن الذي نسب إلى السرقة فظهرت معه ما خلص ، فما الذي ينفع خلاصهم ؟
- و إنما سيقت القصة ليبين أنهم انفردوا و تشاوروا فيما يصنعون ، و كيف يرجعون إلى أبيهم و قد احتبس أخوهم .
- فأي وجه للنجاة ها هنا ؟
- و من تأمل كتابه رأى فيه من هذا الجنس ما يزيد على الإحصاء من هذا الفن القبيح ، و لو أنه أصغى إلىعلماء وقت ، و ترك تعظيم نفسه لبان له الصواب ، غير أن إقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب نعوذ بالله من ذلك .
- · فصل : المن بالعبادة
- تأملت قوله عز وجل : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان فرأيت فيه معنى عجيباً .
- و هو أنهم لما و هبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام ، و علموا أنها لا تصلح للعبادة ، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء ، كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم .
- فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب ، فقد جهلوا قدر الموهوب ، و غفلوا عن وهب .
- و أي شيء لهم في الثمرة و الشجرة ليس ملكاً لهم ؟
- فعلى هذا كل متعبد و مجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة ، و قوة الفهم و العقل صوابا ،فوقع على المطلوب ، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس .
- و من هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار ، فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار ، فقالوا : تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا ، فقال كل منهم : فعلت كذا وكذا . و هؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم ، فبه توسلواإليه .
- و إن كانوا لا حظوا أفعالهم ، فلمحوا جزاءها ظناً منهم أنهم هم الذين فعلوا فهم أهل غيبة لا حضور .
- و يكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة .
- و مثل هذا رؤية المتقي تقواه حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق .
- و ربما احتقر أهل المعاصي و تشمخ عليهم . و هذه غفلة عن طريق السلوك ، و ربما أخرجت .
- و لا أقول لك خالط الفساق احتقاراً لنفسك . بل أغضب عليهم في الباطن و أعرض عنهم في الظاهر . ثم تلمح جريان الأقدار عليهم . فأكثرهم لا يعرف من عصى .
- و جمهورهم لا يقصد العصيان ، بل يريد موافقة هواه ، و عزيز عليه أن يعصي . و فيهم من غلب تلمح العفو و الحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو .
- و هذه كلها ليست بأعذار لهم ، و لكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى ، و اعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم ، لأنك تعرف من تعصى ، و تعلم ما تأتي .
- بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع و وصل المقطوع .
- فالعجب ممن يدل بخير عليه ، و ينسى من أنعم و وفق .
- · فصل : أهل البدع و التشبيه
- اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول ، محروس القواعد ، لا خلل فيه و لا دخل ، و كذلك كل الشرائع .
- إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال .
- مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام فتأملوا الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر ، فنسبوا الفاعل إلى الإلهية .
- و لو تأمل ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص و الحاجات ، و هذا القدر يكفي في عدم صلاح إلهية ، فيعلم حينئذ ما جرى على يديه فعل غيره .
- وقد يؤثر ذلك في الفروع . مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوه عشرين يوماً ، ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم .
- و من هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول و الفروع ، و قد قارب الضلال في أمتنا هذه المسالك ، و إن كان عمومهم قد حفظ من الشرك و الشك و الخلاف الظاهر الشنيع لأنهم أعقل الأمم و أفهمها .
- غير أن الشيطان قارب بهم و لم يطمع في إغراقهم ، و إن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلال . فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم : جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل قيل في صفته : ما فرطنا في الكتاب من شيء و بين ما عساه بشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل له : لتبين للناس ما نزل إليهم فقال بعد البيان : تركتكم على بيضاء نقية . فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه ، و لم يرضوا بطريقة أصحابه ، فبحثوا ثم إنقسموا .
- فمنهم : من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها ، فإن القرآن و الحديث يثبتان الإله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس كقوله تعالى : استوى على العرش و قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان و قوله تعالى و لتصنع على عيني و قول النبي صلى الله عليه و سلم : ينزل الله إلى السماء الدنيا و يبسط يده لمسيء الليل و النهار ، و يضحك و يغضب .
- كل هذه الأشياء ـ و إن كان ظاهراً يوجب تخايل التشبيه ، فالمراد منها إثبات موجود فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها ، قطع ذلك بقوله : ليس كمثله شيء .
- ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر ، و قد قصد الشرع تقرير وجوده فقال : إنا أنزلناه نزل به الروح الأمين فذرني و من يكذب بهذا الحديث و هذا كتاب أنزلناه و أثبته في القلوب بقوله تعالى : في صدور الذين أوتوا العلم و في المصاحف قوله تعالى : في لوح محفوظ و قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو .
- فقال قوم من هؤلاء : مخلوق فأسقطوا حرمته من النفوس ، و قالوا : لم ينزل ، و لا يتصور نزوله و كيف تنفصل الصفة عن الموصوف ، و ليس في المصحف إلا حبر و ورق ؟ فعادوا على ما تعب الشرع في إثباته بالمحو .
- كما قالوا : إن الله عز وجل ليس في السماء ، و لا يقال إستوى على العرش . و لا ينزل إلى السماء الدنيا ، بل ذاك رحمته ، فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها ، و ليس هذا مراد الشرع .
- و جاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع ، بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا : الله على العرش ، و لم يقنعوا بقوله : ثم استوى على العرش .
- و دفن لهم أقوام من سلفهم دفائن ، و وضعت لهم الملاحدة أحاديث ، فلم يعلموا ما يجوز عليه ممالا يجوز ، فأثبتوا بها صفاته ، و جمهور الصحيح منها آت على توسع العرب ، فأخذوهم على الظاهر ، فكانوا في ضرب المثل كجحا فإن أمه قالت له : إحفظ الباب ، فقلعه و مشى به ، فأخذ ما في الدار ، فلامته أمه . فقال : إنما قلت إحفظ الباب ، و ما قلت إحفظ الدار .
- و لما تخايلوا صورة عظيمة على العرش ، أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش ، مثل قوله : [ و من أتاني يمشي ، أتيته هرولة ] . فقالوا : ليس المراد به دنو الإقتراب ، و إنما المراد قرب المنزل و الحظ .
- و قالوا في قوله تعالى : إلا أن يأتيهم الله في ظلل : هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات . فهم يحلونه عاماً و يحرمونه عاماً .
- و يسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات ، فإنه قد أضاف إليه النفخ و الروح .
- و أثبتوا خلقه باليد ، فلو قالوا خلقه لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي صفة تولى بها خلق آدم دون غيره .
- فأي مزية كانت تكون لآدم ؟
- فشغلهم النظر في فضيلة آدم ، عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به .
- فإنه لا يجوز عليه المس ، و لا العمل بالآلات ، و إنما آدم أضافه إليه ، فقالوا : نطلق على الله تعالى إسم الصورة لقوله : خلق آدم على صورته .
- و فهموا هذا الحديث و هو قوله عليه السلام : إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ، و لا يقل قبح الله وجهك و لا وجهاً أشبه وجهك ، فإن الله خلق آدم على صورته .
- فلو كان المراد به الله عز وجل لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم لأن الحديث كذا جاء ـ و لا وجهاً أشبه وجهك ـ و رووا حديث خولة بنت حكيم : و إن آخر وطئة وطئها الله بوج و ما علموا النقل و لا السير و قول الرسول صلى الله عليه و سلم : اللهم أشدد وطأتك على مضر ، و أن المراد به آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج ، و هي غزاة حنين . فقالوا : نحمل الخبرعلى ظاهره ، و أن الله وطئ ذلك المكان .
- و لا شك أن عندهم أن الله تعالى كان في الأرض ثم صعد إلى السماء ، و كذلك قالوا في قوله إن الله لا يمل حتى تملوا قالوا : يجوز أن الله يوصف بالملل فجهلوا اللغة و ما علموا أنه لو كانت حتى ههنا للغاية لم تكن بمدح لأنه إذا مل حين يمل فأي مدح ، و إنما هو كقول الشاعر :
- جلبت مني هزيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا
- و المعنى لا يمل و إن ملوا .
- و قالوا في قوله عليه الصلاة السلام : الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي الرحمن . فقالوا ـ الحقوا ـ صفة ذات و ذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت .
- و عمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبد الله بن عمرو . و قال : [ خلق الله الملائكة من نور الذراعين و الصدر ] فقالوا : نثبت هذا على ظاهره . ثم أرضوا العوام بقولهم : و لا نثبت جوارح ، فكأنهم يقولون فلان قائم و ما هو قائم .
- فاختلف قولهم هل يطلق على الله عز وجل إنه جالس أو قائم كقوله تعالى : قائماً بالقسط .
- و هؤلاء أخس فهماً من جحا لأن قوله قائماً بالقسط لا يراد به القيام و إنما هو كما يقال : الأمير قائم بالعدل .
- و إنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها . فالحذر من هؤلاء عبادة .
- و إنما الطريق طريق السلف . على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمه الله عليه [ من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال ] .
- فلا ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه .
- و لو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل : هذا من الراوي ، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه .
- فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول و لا أبوبكر و لا عمر رضي الله عنهما .
- فهذا أصل يجب البناء عليه فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس .
- و كان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم ، و أنما أدخل أقوام فيه ما تأذينا به .
- و لقد أدخل المتزهدون في الدين ما ينفر الناس ، حتى إنهم يرون أفعالهم فيستعبدون الطريق .
- و أكثر أدلة هذه الطريق القصاص ، فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم و هو لا يحسن الوضوء كلموه بدقائق الجنيد ، و إرشادات الشبلي . فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية و ترك الكسب للعائلة و مناجاة الحق في خلوة على زعمه .
- مع كونه لا يعرف أركان الصلاة ، و لا أدبه العلم ، و لا قوم أخلاقه شيء من مخالطة العلماء .
- فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الإصطبل.
- فأن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا أشباحاً يظنهم الملائكة ثم يطأطئ رأسه ، و يمد يده للتقبيل .
- فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع و قعد في زاوية ، فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه .
- فلو قيل له : عد مريضاً ، قال : مالي عادة . فلعن الله عادة تخالف الشريعة .
- فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه ، لا التي عليها الفقهاء ، فيقعون في الضلال .
- و من المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا .
- ثم يتفاوت جهالهم ، فمنهم من سلك مذهب الإباحة و يقول : الشيخ لا يعارض ، و ينهمك في المعاصي .
- و منهم : من يحفظ ناموسه فيفي بغير علم ، لئلا يقال : الشيخ لا يدري .
- و لقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمه الله : أن الشريف الدحالتي ـ و كان يقصد فيزار و يتبرك به ـ حضر عنده يوماً فسأل أبو حكيم : هل تحل المطلقة ثلاثاً إذا ولدت ذكراً ؟ قال :
- فقلت : لا و الله ، فقال لي الشريف : اسكت فو الله لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة .
- و حكى لي الشيخ أبو حكيم : أن جد آذاذ الحداد ، و كان يتوسم بالعلم ، جاءت إليه امرأة فزوجها من رجل ، و لم يسأل عن انقضاء العدة ، فاعترضها الحاكم و فرق بينها و بين الزوج ، و أنكر على المزوج ، فلقيته المرأة . فقالت يا سيدي ، أنا امرأة لا أعلم ، فكيف زوجتني ؟ فقال [ دعي حديثهم ، ما أنت إلا طاهرة مطهرة ] .
- و حدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين ، و يقول : و الله ما سهوت ، و لكن أفعله احترازاً ، فقال له الفقيه : قد بطلت صلاتك كلها ، لأنك زدت سجوداً غير مشروع .
- ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصرفة فإنهم سلكوا طرقاً أكثرها تنافي الشريعة ، و أهل التدين منهم يقللون و يخففون .
- و هذا ليس بشرع ، حتى إن رجلاً كان قريباً من زماني يقال له كثير ، دخل إلى جامع المنصور و قال : عاهدت الله عهداً و نقضته ، فقد ألزمت نفسي ألا تأكل أربعين يوماً .
- فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام في العشر الرابع ، أشرف على الموت ، قال : فما إنقضت حتى تفرغ ، فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشاً كنشيش المقلاة ، ثم مات بعد أيام .
- فأنظروا إلى هذا المسكين و ما فعله به جهلة .
- و منهم من فسح لنفسه في كل ما يحب من التنعم و اللذات ، و اقتنع من التصوف بالقميص و الفوطة و العمامة اللطيفة و لم ينظر من أين يأكل و لا من أين يشرب ، و خالط الأمراء من أرباب الدنيا ، و لباس الحرير ، و شراب الخمور ، حفظاً لماله و جاهه .
- و منهم أقوام سنناً لهم تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت .
- و منهم من أكب على سماع الغناء و الرقص و اللعب ، ثم إنقسم هؤلاء ، فمنهم من يدعي العشق فيه ، و منهم من يقول بالحلول ، و منهم من يسمع على وجه الهوى و اللعب .
- و كلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام .
- و هذا الشرح يطول . و قد صنفت كتباً ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى ، منها [ تلبيس إبليس ] .
- و المقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهماً له فأنت تتبع الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و تترك بنيات الطريق و لا تقلد في دينك الرجال . فإذا فعلت فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى .
- و إحذر جمود النقلة ، و إنبساط المتكلمين ، و جموع المتزهدين ، و شره أهل الهوى ، و وقوف العلماء على صورة العلم من غيل عمل ، و عمل المتعبدين بغير علم .
- و من أيده الله تعالى بلطفه ، رزقه الفهم و أخرجه عن ربقة التقليد ، و جعله أمة وحده في زمانه ، لا يبالي بمن عبث ، و لا يلتفت إلى من لام ، قد سلم زمامه إلى دليله في واضح السبيل .
- عصمنا الله و إياكم من تقليد المعظمين ، و ألهمنا إتباع الرسول صلى الله عليه و سلم ، فإنه درة الوجود ، و مقصود الكون صلى الله عليه و سلم و على آله و أصحابه و أتباعه ، و رزقنا إتباعه مع أتباعه .
- · فصل : طبيعة الزمن
- اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل : و تلك الأيام نداولها بين الناس .
- فتارة فقر و تارة غنى ، و تارة عز ، و تارة ذل ، و تارة يفرح الخوالي ، و تارة يشمت الأعادي .
- فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال ، و هو تقوى الله عز وجل فإنه إن استغنى زانته ، و إن إفتقر فتحت له أبواب الصبر ، و إن عوفي تمت النعمة عليه ، و إن إبتلى حملته ، و لا يضره إن نزل به الزمان أو صعد ، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه .
- لأن جميع تلك الأشياء تزول و تتغير . و التقوى أصل السلامة حارس لا ينام ، يأخذ باليد عند العثرة و يواقف على الحدود .
- و المنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول و تخلية خاسراً .
- و لازم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة ، و في المرض إلا العافية . هذا نقدها العاجل . و الآجل معلوم .
- · فصل : جاهد هواك
- تأملت أمراً عجيباً ، و أصلاً ظريفاً ، و هو انهيال الابتلاء على المؤمن ، و عرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها . و خصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة .
- فقلت : سبحان الله ، ههنا يبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين .
- و الله ما صعد يوسف عليه السلام و لا سعد إلا في مثل ذلك المقام ، فبالله عليكم يا إخواني ، تأملوا حاله لو كان وافق هواه ، من كان يكون ؟
- و قيسوا بين تلك الحالة ، و حالة آدم عليه السلام ، ثم زنوا بميزان العقل عقبي تلك الخطيئة ، و ثمرة هذا الصبر ، و اجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى .
- و إن اللذات لتعرض على المؤمن ، فمتى لقيها في صف حربه و قد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب هزم .
- و كأني أرى الواقع في بعض أشراكها ، و لسان الحال يقول له : قف مكانك ، أنت و ما إخترت لنفسك .
- فغاية أمره الندم و البكاء .
- فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش .
- و كم من شخص زلت قدمه ، فما ارتفعت بعدها .
- و من تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا : و تصدق علينا عرف شؤم الزلل .
- و من تدبر أحوالهم قاس ما بينهم و بين أخيهم من الفروق . و إن كانت توبتهم قبلت ، لآنه ليس من رقع و خاط ، كمن ثوبه صحيح .
- و رب عظم هيض لم ينجبر ، فإن جبر فعلى و هي .
- فتيقظوا إخواني لعرض المشتبهات على النفوس ، و استوثقوا من لجم الخيل ، و انتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة .
- فربما مد الوادي فراح بالركب .
- · فصل : سر إجابة الدعاء
- تأملت حالة عجيبة ، و هي : أن المؤمن تنزل به النازلة فيدعو ، و يبالغ ، فلا يرى أثراً للاجابة .
- فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه ، فإن كان راضياً بالأقدار ، غير قنوط من فضل الله عز وجل ، فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ ، لأن هناك يصلح . الإيمان و يهزم الشيطان ، و هناك تبين مقادير الرجال .
- و قد أشير إلى هذا في قوله تعالى : حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه : متى نصر الله .
- و كذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً ، و طال الأمر عليه ، لم ييأس من الفرج ، فأخذ ولده الآخر ، و لم ينقطع أمله من فضل ربه أن يأتيني بهم جميعاً .
- و كذلك قال زكريا عليه السلام و لم أكن بدعائك رب شقيا .
- فإياك أن تستطيل مدة الإجابة ، و كن ناظراً إلى أنه المالك ، و إلى أنه الحكيم في التدبير ، و العالم بالمصالح ، و إلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك ، و إلى أنه يريد أن يرى تضرعك ، و إلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك ، إلى غير ذلك . و إلى أنه يبتليك بالتأخير لتجارب وسوسة إبليس .
- و كل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله ، و توجب الشكر له ، إذ أهلك بالبلاء للالتفاف إلى سؤاله ، و فقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله .
- · فصل : الغريزة
- لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا باجتلاب المصالح و دفع المؤذي ، ركب فيه الهوى ، ليكون سبباً لجلب النافع . و الغضب ليكون سبباً لدفع المؤذي .
- و لولا الهوى في المطعم ، ما تناول الطعام ، فلم يقم بدنه ، فجعل له إليه ميل و توق .
- فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق ، و كذلك في المشرب و الملبس و المنكح .
- و فائدة المنكح من وجهين : أحدهما : إبقاء الجنس ، و هو معظم المقصود . و الثاني : دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها .
- و لولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد ، فمات النسل و آذى المحتقن .
- فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود ، و أما الجاهلون فإنهم مالوا مع الشهوة ، و الهوى ، و لم يفهموا مقصود وضعها ، فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه ، و فاتهم ما خلقوا لأجله ، و أخرجهم هواهم إلىفساد المال ، و ذهاب العرض و الدين ، ثم أداهم إلى التلف .
- و كم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ، ليحرك طبعه بالمتجسد ، فما كان أسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتعجل تلفه .
- و كذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه و بمن يحبه .
- فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا ، و لم تخلق لنفس الألتذاذ ، و إنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمة أو في حظاً من الآدمي منها .
- فطوبى لمن فهم حقائق الوضع ، و لم يمل له الهوى عن فهم حكم المخلوقات
- · فصل : سمة العصاة
- من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة .
- و لقد تفكرت في أقوام أعرفهم يقرون بالزنا و غيره ، فأرى من تعثرهم في الدنيا مع جلادتهم ما لا يقف عند حد ، و كأنهم قد لبسوا ظلمة ، فالقلوب تنفر عنهم .
- فإن اتسع لهم شيء فأكثره من مال الغير ، و إن ضاق بهم أمر أخذوا يتسخطون علىالقدر .
- هذا و قد شغلوا بهذه الأوساخ عن ذكرالآخرة .
- ثم عكست فتفكرت في أقوام صابروا الهوى ، و تركوا ما لا يحل .
- فمنهم من قد أينعت له ثمرات الدنيا من قوت مستلذ ، و مهاد مستطاب ، و عيش لذيذ ، و جاء عريض ، فإن ضاق بهم أمر وسعه الصبر ، و طيبة الرضى ففهمت بالحال معنى قوله تعالى : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .
- · فصل : إلزم باب مولاك
- ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال و أن يتعلق بذيل فضله إن عصى و إن أطاع .
- و ليكن له أنس في خلوته به ، فأن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش كما قال الشاعر :
- أمستوحش أنت مما جنيت فأحسن إذا شئت و استأنس
- فإن رأى نفسه مائلاً إلى الدنيا طلبها منه ، أو إلى الآخرة سأله التوفيق للعمل لها .
- فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل الله إصلاح قلبه ، وطب مرضه فإنه إذا صلح لم يطلب ما يؤذيه .
- و من كان هكذا كان في العيش الرغد ، غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى ، فإنه لا يصلح الأنس إلا بها .
- و قد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللج و السؤال .
- و في الخبر : أن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك هاله أمرهم فقال : أين محمد بن واسع ؟ فقيل : هو في أقصى الميمنة جنح على سية قوسه ، يومي بأصبعه نحو السماء ، فقال قتيبة : تلك الإصبع الفاردة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير ، و سنان طرير ، فلما فتح عليهم قال له : ما كنت تصنع ؟ قال : آخذ لك بمجامع الطرق .
- · فصل : كن حكيماً إزاء النعم
- ينبغي لمن تظاهرة نعم الله عز وجل عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها ، و لا يكشف جملتها ، و هذا من أعظم لذات الدنيا التي يأمر الحزم بتركها ، فإن العين حق .
- و إني تفقدت النعم فرأيت إظهارها حلواً عند النفس ، إلا أنها إن أظهرت الوديد لم يؤمن تشعث باطنه بالغيظ .
- و إن أظهرت لعدو فالظاهر غصابته بالعين لموضع الحسد ، إلا أنني رأيت شر الحسود كاللازم ، فإنه في حال البلاء يتشفى ، و في حال النعم يصيب بالعين .
- و لعمري إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده ، و لكنه لا يؤمن أن يخاطر بنعمته ، فإن الغالب إصابة الحاسد لها بالعين فلا يساوي الا لتذاذ بإظهار ما غيظ به ما أفسدت عينه بإصابتها .
- و كتمان الأمور في كل حال فعل الحازم ، فإنه إن كشف مقدار سنة استهرموه إن كان كبيراً و إحتقروه إن كان صغيراً ، و إن كشف ما يعتقدناصبه الأضداد بالعداوة .
- و إن كشف قدر ماله استحقروه إن كان قليلاً و حسدوه إن كان كثيراً و في هذه الثلاثة يقول الشاعر .
- احفظ لسانك لا تبح بثلاثة سن و مال ما استطعت و مذهب
- فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة بمموه و ممخرق و مكذب
- و قس على ماذكرت مالم أذكره و لا تكن من المذاييع الغر الذين لا يحملون أسرارهم حتى يفشوها إلى من لا يصلح .
- و رب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان .
- · فصل : لا تغتر بالظواهر
- رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلي ما عثر به ، فينظر إليه ، طبعاً موضوعاً في الخلق .
- إما ليحذر منه أن جاز عليه مرة أخرى ، أو لينظر ـ مع احترازه و فهمه ـ كيف فاته التحرز من مثل هذا .
- فأخذت من ذلك إشارة و قلت : يا من عثر مراراً هلا أبصرت ما الذي عثرك فاحترزت من مثله ، أو قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة .
- فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته كيف عثر مع احترازه بمثل ما أرى .
- فالعجب لك كيف عثرت بمثل الذنب الفلاني و الذنب الفلاني ؟.
- كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه ، و ترى بعين فكرك مآله ؟ كيف آثرت فانياً على باق ؟
- كيف بعت بوكس ؟ كيف اخترت لذة رقدة على انتباه معاملة ؟.
- آه لك لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم لا يفلها ظهر ، و تنكيس رأس أمسى بعيد الرفع ، و دموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع .
- و أقبح الكل ، أن يقال لك : بماذا ؟ و من أجل ماذا ؟ و هذا على ماذا ؟ يا من قلب الغرور عليه الصنجة ، و وزن له و الميزان راكب .
- · فصل : الهوى النور
- تأملت قوله تعالى : فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى .
- قال المفسرون : هداي رسول الله صلى الله عليه و سلم و كتابي .
- فوجدته على الحقيقة أن كل من اتبع القرآن و السنة و عمل بما فيهما ، فقد سلم من الضلال بلا شك ، و ارتفع في حقه شقاه الآخرة بلا شك ، إذا مات على ذلك .
- و كذلك شقاء الدنيا فلا يشقى أصلاً ، و يبين هذا قوله تعالى : و من يتق الله يجعل له مخرجاً .
- فإن رأيته في شدة فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب عنده عسلا ، و إلا غلب طيب العيش في كل حال .
- و الغالب أنه لا ينزل به شدة إلا إذا انحرف عن جادة التقوى .
- فأما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه ، و لا بلية تنزل به ، هذا هو الأغلب .
- فإن تدر من تطرقه مع التقوى ، فذاك في الأغلب لتقدم ذنب يجازي عليه ، فإن قدرنا عدم الذنب . فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء ، حتى يخرج تبرأ أحمر ، فهو يرى عذوبه العذاب . لأنه يشاهد المبتلي في البلاء الآلم .
- قال الشبلي : [ أحب الناس لنعمائك ، و أنا أحبك لبلائك ] .
- · فصل : آثار الذنوب
- لا ينال لذة المعاصي إلا سكراناً بالغفلة .
- فأما المؤمن فإنه لا يلتذ ، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم ، و حذر العقوبة .
- فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي ، فيتنغص عيشه في حال التذاذه .
- فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصاً بهذه المراقبات ، و إن كان الطبع في شهوته .
- و ما هي إلى لحظة ، ثم خذ من غريم ، ندم ملازم ، و بكاء متواصل ، وأسف على ما كان من طول الزمان .
- حتى إنه لو تيقن العفو و قف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها و ما أسوأ أخبارها ، و لا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة .
- · فصل : عزلة العالم عن الشر
- بكرت يوماً أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة ، فجعلت أجول و حدي و أتفكر في ذلك المكان و من كان به من العلماء و الصالحين .
- و رأيت أقواماً قد جاوروا فيه فسألت أحدهم : منذ كم أنت ها هنا ؟ فأومأ إلي قريب من أربعين سنة .
- فرأيته في بيت كثير الدرن و الوسخ ، و جعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة ، فأخذت النفس تحسن ذلك ، و تذم الدنيا و الاغترار بها .
- فأقبل العلم ينكر على النفس ، و نهض الفهم لحقائق الأمور ، و موضوع الشرع يقوي ما قال العلم . فينحل من ذلك أن قلت للنفس : اعلمي أن هؤلاء على ضربين . منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال ، فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم و العمل و طلب الولد ، و نفع الخلق ، و انتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم ، فيحدث له من حاله تشابه فيها الوحش فيؤثر الانفراد .
- و ربما يبس الطبع ، و ساء الخلق ، و ربما حدث من حبس مائة المحتقن سميه من أفسدت بدنه وعقله ، و ربما أورثته الخلوة وسوسة ، و ربما ظن أنه من الأولياء واستغنى بما يعرفه ، و ربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات و هو يعدها كرامات ، ربما ظن أن الذي هو فيه الغاية لا يدري أنه إلى الكراهة أقرب .
- فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم : نهى أن يبيت الرجل وحده ، و هؤلاء كل منهم يبيت وحده ، و نهى عن التبتل و هذا تبتل ، و نهىعن الرهبانية و هذا من خفىخدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلالة بألطف وجه و أخفاه .
- و الضرب الثاني : مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة ، إذ ليس لأحدهم مأوى . فهم في مقام الزمني .
- و إن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم و العمل و الكسب و تعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب ، فرضوا بالعمى بعد البصر ، و بالزمن بعد الإطلاق قالت لي النفس : لا أرضى هذا الذي تقوله ، فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات و المطاعم المشتهيات . فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم .
- فقلت لها : إن فهمت حدثتك و إن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك .
- أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد ، و منها شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية ، و كمال خروجها لا يكون إلى بوجود المستحسن .
- و اعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في الفرج .
- و بتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي .
- كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم ، و ننهاه عن الحكم و هو غضبان أو حاقن .
- و بكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي خلق منها .
- ثم للنفس حظ فهو يستوفيه إستيفاء الناقة حظها من العلف في السفر ، و ذلك بعين على سيرها .
- و أما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها .
- و إنما المراد إصلاح الناقة لجمع همها ، و نيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها .
- و إذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجباً ، فإن النبي صلى الله عليه و سلم إختار لنفسه عائشة رضي الله عنها و كانت مستحسنة . [ و رأى زينب استحسنها ، فتزوجها ، و كذلك إختار صفية ، و كان إذا وصفت له إمرأة بعث يخطبها ] .
- و كان لعلي رضي الله عنه أربع حرائر ، و سبع عشرة سرية مات عنهن .
- و قبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة إمرأة ، و لسليمان عليه السلام ألف إمرأة ، فمن ادعى خللاً في هذه الطرق ، أو أن هؤلاء آثروا هواهم ، و أنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض و غيرها أفضل ، فقد إدعى على الكاملين النقصان ، و إنما هو الناقص في فهمه لا هم .
- و قد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية و فالوذج ، و كان حسن الطعم ، و كان يقول : [ إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل ] .
- و هذه الفنون التي أشرت إليها إن قصدت للحاجة إليها ، أو لقضاء و طر النفس منها ، أو لبلوغ الأغراض الدينية و الدنيوية منها ، فكله قصد صحيح لا يعكر عليه من يقوم و يقعد في ركعات لا يفهم معناها ، و في تسبيحات أكثر ألفاظها ردية .
- كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات ، و أشرف العبادات ، و هو الأمر بالمصالح ، و الناطق بالنصائح .
- ثم منفعة العلم معروفة ، و زهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت الشمس .
- ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام . و الجوارح على التي لا تصيد . و الطين منه ما ينتفع به على الطين في المقلع .
- و غاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح ، و أكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح .
- فكم فوتت العزلة علماً يصلح به أهل الدين ، و كم أوقعت في بلية هلك بها الدين ، و إنما عزلة العالم عن الشر فحسب ، و الله الموفق .
- · فصل : عواقب المعاصي
- يبغي لكل ذي لب و فطنة أن يحذر عواقب المعاصي . فإنه ليس بين الآدمي و بين الله تعالى قرابة و لا رحم ، و إنما هو قائم بالقسط ، حاكم بالعدل .
- و إن كان حلمه يسع الذنوب . إلا أنه إذا شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب ، و إذا شاء أخذ و أخذ باليسير ، فالحذر الحذر .
- و لقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم و المعاصي باطنة و ظاهرة فتعبوا من حيث لم يحتسبوا .
- فقلت أصولهم . و نقص ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم .
- و ما كان ذلك إلا لأنهم أهملوا جانب الحق عز وجل ، و ظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر ، فمالت سفينة ظنونهم . فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم .
- و رأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات .
- فمحا محاسن ذكرهم في الخلوات . فكانوا موجودين كالمعدومين ، لا حلاوة لرؤيتهم ، و لا قلب يحن إلى لقائهم .
- فالله الله في مراقبة الحق عز وجل . فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة ، و جزاؤه مراصد للمخطئ و لو بعد حين .
- و ربما ظن أنه العفو و إنما هو إمهال و للذنوب عواقب سيئة .
- فالله الله الخلوات الخلوات .
- البواطن البواطن . النيات النيات .
- فإن عليكم من الله عيباً ناظرة .
- و إياكم و الاغترار بحلمه و كرمه ، فكم قد استدرج .
- و كونوا على مراقبة الخطايا ، مجتهدين في محوها .
- و ما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا ، فلعله ...
- و هذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه .
- و لقد قال بعض المراقبين لله تعالى : قدرت على لذة و ليست بكبيرة .
- فنازعني نفسي إليه ، اعتماداً على صغرها ، و عظم فضل الله تعالى و كرمه .
- فقلت لنفسي : إن غلبت هذه فأنت أنت ، و إذا أتيت هذه فمن أنت ؟
- و ذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم ، و تمكن الإعراض عنهم .
- فارعوت ، و رجعت عما همت به ، و الله الموفق .
- · فصل : استصغار الذنوب
- كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة . و هي تقدح في الأصول كاستعارة طلاب العلم جزءاً لا يردونه .
- و قصد الدخول يتسامحون على من يأكل ليأكل معه .
- و التسامح بعرض العدو التذاذاً بذلك ، و استصغاراً لمثل هذا الذنب .
- و إطلاق البصر استهانة بتلك الخطيئة .
- و أهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس ، و من مقام رفعه القدر عند الحق .
- [ أو فتوى من لا يعلم ، لئلا يقال : هو جاهل ، و نحو ذلك مما يظنه صغيراً و هو عظيم ] .
- و ربما قيل له بلسان الحال : يا من اؤتمن على أمر يسير فخان . كيف ترجو بتدليك رضا الديان ؟
- قال بعض السلف : [ تسامحت بلقمة فتناولتها ، فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف ] .
- فالله الله ، اسمعوا ممن قد جرب ، كونوا على مراقبة . و انظروا في العواقب ، و اعرفوا عظمة الناهي . و احذروا من نفخة تحتقر ، و شررة تستصغر ، فربما أحرقت و بلداً . و هذا الذي أشرت إليه ، يسير يدل على كثير ، و أنموذج ، يعرف باقي المحقرات من الذنوب .
- و العلم و المراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره ، و يعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة ، أثر شؤم فعله و لا حول و لا قوة إلا با الله العلي العظيم .
- · فصل : تب إلى الله ثم سله حوائجك
- رأيت من نفسي عجباً : تسأل الله عز وجل حاجاتها ، و تنسى جناياتها ؟
- فقلت : يا نفس السوء أو مثلك ينطق ؟
- فإن نطق فينبغي أن يكون السؤال فحسب .
- فقالت : فممن أطلب مراداتي ؟ .
- قلت : ما أمنعك من طلب المراد . إنما أقول حققي ، و انطقى .
- كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل ، فإن قيل لنا : أفيموت ! قلنا : لا ، بل يتوب و يأكل .
- فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس ، و لئن تشاغلت بإصلاح ما مضى و الندم عليه جاءتك مراداتك .
- كما روى : [ من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ] .
- و قد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال ثم يسلبهما و يقول : مثلي لا يسأل [ ما أبقت الذنوب لي وجهاً ] .
- و هذا يختص ببشر لقوة معرفته ، كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحاً فإستحى للزلل .
- فأما أهل الغفلة فسؤالهم على بعد ، فاقهم ما ذكرته ، و تشاغل بالتوبة من الزلل . ثم العجب من سؤالاتك فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا ، بل فضول العيش .
- و لا تسأل صلاح القلب و الذين مثل ما تسأل صلاح الدنيا .
- فاعقل أمرك فإنك من الانبساط و الغفلة على شفا جرف .
- و ليكن حزنك على زلاتك شاغلاً لك عن مراداتك ، فقد كان الحسن البصري شديد الخوف ، فلما قيل له في ذلك قال :
- و ما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب لا غفرت لك .
- · فصل : دعوى المعرفة مع العبد عن العرفان
- أعجب العجب دعوى المعرفة مع البعد عن العرفان .
- بالله ، ما عرفه إلا من خاف منه ، فأما المطمئن فليس من أهل المعرفة .
- و في المتزهدين أهل تغفيل ، يكاد أحدهم يوقن أنه ولي محبوب و مقبول .
- و ربمات توالت [ عليه ] ألطاف ظنها كرامات و نسي الاستدراج الذي لفت مساكنته الألطاف .
- و ربما احتقر غيره و ظن أن محلته محفوظة به ، تغره ركيعات ينتصب فيها ، أو عبادة ينصب بها .
- و ربما ظن أنه قطب الأرض ، و أنه لا ينال مقامه بعده أحد .
- و كأنه ما علم أنه نبينا موسى مكالم نبئ يوشع .
- و بينا زكريا عليه السلام مجاب الدعوة نشر بالمنشار .
- و بينا يحيى عليه السلام يوسف بأنه سيد سلط عليه كافر احتز رأسه .
- و بينا بلعام معه الاسم الأعظم صار مثله كمثل الكلب .
- و بينا الشريعة يعمل بها نسخت و بطل حكمها .
- و بينا البدن معمور خرب و سلط البلى عليه .
- و بينا العالم يدأب حتى ينال مرتبة يعتقدها ، نشأ طفل في زمانه ترقى إلى سبر عيوبه و غلطه .
- كم من متكلم يقول : ما مثلي ! ! ، لو عاش فسمع ما حدث بعده من الفصاحة هد نفسه أخرساً .
- هذا و عظ ابن السماك ، و ابن عمار ، و ابن سمعون ، لا يصلح لبعض تلامذتنا و لا يرضاه .
- فكيف يعجب من ينفق شيئاً . و ربما أتى بعدنا من لا يعدنا ؟
- فا الله الله من مساكنة مسكن ، و مخالفة مقام .
- و ليكن المتيقظ على انزعاج ، محتقراً للكثير من طاعاته ، خائفاً على نفسه من تقلباته ، و نفوذ الأقدار فيه .
- و اعلم أن تلمح هذه الأشياء التي أشرت إليها يضرب عنق العجب ، و يذهب كبر الكبر .
- · فصل : إنما يتباين الناس بنزول البلاء
- من عاش مع الله عز وجل طيب النفس في زمن السلامة خفت عليه في زمن البلاء ، فهناك المحك .
- إن الملك عز وجل بينا يعطي نقص ، و بينا يعطي سلب ، فطيب النفس و الرضى هناك يبين .
- فأما من تواصلت لديه النعم فإنه يكون طيب القلب لتواصلها ، فإذا مسته نفحة من البلاء فبعيد ثيابه .
- قال الحسن البصري : [ كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلاء تباينوا ] .
- فالعقل من أعد ذخراً، و حصل زاداً ، من العدد للقاء حرب البلاء .
- و لا بد من لقاء البلاء ، و لو لم يكن إلا عند صرعه الموت ، فإنها إن نزلت و العياذ بالله فلم تجد معرفة توجب الرضى أو الصبر ، أخرجت إلى الكفر .
- و لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير و هو يقول في ليالي موته : ربي هو ذا يظلمني ، فلم أزل منزعجاً بتحصيل عدة ألقى بها ذلك اليوم .
- كيف و قد روى أن الشيطان يقول لأعوانه في تلك الساعة : [ عليكم بهذا ، فإن فاتكم لم تقدروا عليه ] .
- و أي قلب يثبت عند إمساك النفس ، و الأخذ بالكظم ، و نزع النفس و العلم بمفارقة المحبوبات إلى ما لا يدري ما هو ، و ليس في ظاهره إلا البقر و البلاء .
- فنسأل الله عز وجل يقيناً يقيناً شر ذلك اليوم ، لعلنا نصبر للقضاء ، أو نرضى به .
- و نر غب إلى مالك الأمور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه ، حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا ، و تفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا .
- و نعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا ، حتى إذا انعكس علينا أمر عدنا إلى القدر بالتسخط .
- و هذا هو الجهل المحض ، و الخذلان الصريح ، أعاذنا الله منه .
- · فصل : صفة العارف
- ليس في الدنيا و لا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل ، فإن العارف به مستأنس به في خلوته .
- فإن عمت نعمة علم من أهداها ، و إن مر مر حلا مذاقه في فيه ، لمعرفته بالمبتلي . و إن سأل فتعوق مقصوده ، صار مراده ما جرى به القدر ، علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة ، و ثقته بحسن التدبير .
- و صفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه ، قائم بين يديه ، ناظر بعيز اليقين إليه ، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها .
- فإن نطقت فلم أنطق بغيركم و إن سكت فأنتم عقد إضماري
- إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب ، و لم ير سوى المسبب ، فهو في أطيب عيش معه . إن سكت تفكر في إقامة حقه ، و إن تكلم بما يرضيه ، لا يسكن قلبه إلى زوجة و لا إلى ولد ، و لا يتشبث بذيل محبة أحد .
- و إنما يعاشر الخلق ببدنه ، و روحه عند مالك روحه ، فهذا الذي لا هم عليه في الدنيا ، و لا غم عنده وقت الرحيل عنها ، و لا وحشة له في القبر ، و لا خوف عليه يوم المحشر .
- فأما من عدم المعرفة فإنه معثر لا يزال يضج من البلاء لأنه لا يعرف المبتلي ، و يستوحش لفقد غرضه لأنه لا يعرف المصلحة . و يستأنس بجنسه لأنه لا معرفة بينه و بين ربه ، و يخاف من الرحيل لأنه لا زاد له و لا معرفة بالطريق .
- و كم من عالم و زاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال ، و ربما زاد عليهما .
- و كم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما .
- و إنما هي مواهب و أقسام ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
- · فصل : لا قيمة للجنة مع إعراض الحبيب
- بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى ، لا تبع عزها بذل المعاصي .
- و صابر عطش الهوى في هجير المشتهى و إن أمض و أرمض .
- فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم و قل ، فهو مقام من لو أقسم على الله لأبره .
- تالله لولا صبر عمر ما انبسطت يده يضرب الأرض بالدرة .
- و لولا جد أنس بن النضير في ترك هواه ، و قد سمعت من آثار عزمته : [لئن أشهدني الله مشهداً ليرين ما أصنع ، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه] . فلولا هذا العزم ما كان إنبساط وجهه يوم حلف و الله لا تكسر سن الربيع .
- بالله عليك تذوق حلاوة الكف عن المنهى ، فإنها شجرة تثمر عز الدنيا و شرف الآخرة .
- و متى اشتد عطشك إلى ما تهوى ، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل .
- و قل قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف ، فعجل لي العام الذي فيه أغاث و أعصر .
- بالله عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى و الطاعة ثم عرضت فتنة في الوقت الآخر ، كيف نطح مركبه الجرف فغرق وقت الصعود .
- أف و الله للدنيا ، لابل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب
- إنما نسب العامي باسمه و اسم أبيه ، فأما ذوو الأقدار فالألقاب قبل الأنساب .
- قل لي : من أنت ؟ و ما عملك ؟ و إلى أي مقام ارتفع قدرك ؟ يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي .
- بالله عليك أتدري من الرجل ؟
- الرجل و الله من إذا خلا بما يحب من المحرم و قدر عليه و تقلل عطشاً إليه ، نظر إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه ، فذهب العطش .
- كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي ، أو مالا تصدق الشهوة فيه ، أو مالا تقدر عليه .
- كذا و الله عادتك إذا تصدقت أعطيتك كسرة لا تصلح لك ، أو في جماعة
- يمدحونك .
- هيهات و الله و لا نلت ولايتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة . تبذل أطايبك . و تترك مشتهياتك ، و تصبر على مكرهاتك .
- علماً منك تدخر ثوابك لدينا إن كنت معاملاً بأنك أجير و ما غربت الشمس فإن كنت محباً رأيت ذلك قليلاً في جنب رضى حبيبك عنك .
- وما كلامنا مع الثالث ... !!
- · فصل : لا تنكر نور الشمس و نظرك ضعيف
- رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه . فربما لم يتبين له منها ـ مثل النقض بعد البناء ـ فيقف متحيراً .
- و ربما انتهز الشيطان تلك الفرصة ، فوسوس إليه : أين الحكمة من هذا ؟
- فقلت له : احذر أن تخدع يا مسكين ، فإنه قد ثبت بالدليل القاطع لما رأيت من إتقان الصنائع مبلغ حكمة الصانع ، فإن خفى عليك بعض الحكم فلضعف إدراكك .
- ثم ما زالت للمولك أسرار فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه ؟
- يكفيك الجمل و إياك إياك أن تتعرض لما يخفى عليك .
- فإنك بعض موضوعاته ، و ذرة من مصنوعاته .
- فكيف تتحكم على من صدرت عنه ؟
- ثم قد ثبت عندك حكمته ، و حكمه و ملكه ، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم ، فإنه سيورثك الدهش .
- و اغمض عما يخفى عليك ، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا ياوي نور الشمس .
- · فصل : أعط نفسك حقها و استوف حقك منها
- أعجب الأشياء مجاهدة النفس ، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة .
- فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب ، فأوقعتهم فيما كرهوا ، و إن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها ، و ظلموها .
- و أثر ظلمهم لها في تعبداتهم ، فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها .
- منهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس و آلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض ، أو بر والدة .
- و إنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد و حفظ الأصول . فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه .
- فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده ، فإن لا ينبسط إليه الغلام . فإن انبسط ذكر هيبة المملكة .
- فكذلك المحقق يعطيها حظها ، و يستوفي منها ما عليها .
- · فصل : في فهم معنى الوجود
- رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً .
- إن طال الليل فيحديث لا ينفع ، أو بقراءة كتاب فيه غزاة و سمر .
- وإن طال النهار فالبالنوم .
- و هم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة و هي تجري بهم ، و ما عندهم خبر .
- و رأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود ، فهم في تعبئة الزاهد و التأهب للرحيل .
- إلا أنهم يتفاوتون ، و سبب تفاوتهم قلة العلم و كثرته بما ينفق في بلد الإقامة .
- فالمتيقظون منهم يتطلعون ، إلى الأخبار بالنافق هناك ، فيستكثرون منه فيزيد ربحهم .
- و الغافلون منهم يحملون ما إتفق ، و ربما خرجوا لا مع خفير .
- فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً .
- فا الله الله في مواسم العمر .
- و البدار قبل الفوات .
- و استشهدوا العلم ، و استدلوا الحكمة ، و نافسوا الزمان ، و ناقشوا النفوس ، و استظهروا بالزاد .
- فكان قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع دمع الندم .
- · فصل : الصدق في القلب
- أضر ما على المريض التخليط ، و ما من أحد إلا و هو مريض بالهوى ، و الحمية هي رأس الدواء .
- و التخليط يديم المرض ، و تخليط أرباب الآخرة على ضربين : أحدهما : تخليط العلماء ، و هو إما لمخالطة الأضدادكالسلاطين ، فإنهم يضعفون قوى يقينهم . وكما زادت المخالطة ، يفقدون دليلهم عند المريدين .
- فإني إذا رأيت طبيباً يخلط و يحميني شككت أو وقفت .
- و الثاني : تخليط الزهاد ، و قد يكون بمخالطة أرباب الدنيا ، و قد يكون بحفظ الناموس في إظهار التخشع ، لاجتلاب محبة العوام .
- الله الله فإن ناقد الجزاء بصير ، و الإخلاص في الباطن ، و الصدق في القلب . ونعم طريق السلامة ستر الحال .
- اقرأ بعده:
- · فصل : في فضل العالم و العامل
الأربعاء، 17 سبتمبر 2014
2.كتاب صيد الخاطر^^
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق