فصل : وزن الأعمال في الدنيا قبل موازين الآخرة
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة .
و ما أرى لذلك سكراً إلا باللسان .
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً .
و لو كشف للناس بعضها لاستحييت .
و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
قال لنفسه : يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
كما يقال للمصارع الفاره .
ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له .
و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة .
إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، و سقطت عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها .
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
بين الأصحاب .
و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت .
و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها .
و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه .
و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي .
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي .
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم .
فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .
· فصل : وزن الأعمال في الدنيا قبل موازين الآخرة
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة .
و ما أرى لذلك سكراً إلا باللسان .
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً .
و لو كشف للناس بعضها لاستحييت .
و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
قال لنفسه : يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
كما يقال للمصارع الفاره .
ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له .
و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة .
إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، و سقطت عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها .
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
بين الأصحاب .
و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت .
و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها .
و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه .
و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي .
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي .
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم .
فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .
· فصل : عداء الأقارب صعب
عداوة الأقارب صعبة ، و ربما دامت كحرب بكر و تغلب ابني وائل ، و عبس و ذبيان ابني بغيض ، و الأوس و الخزرج ابني قيلة .
قال الجاحظ : [ ركدت هذه الحرب أربعين عاماً ] .
و السبب في هذا أن كل واحد من الأقارب يكره أن يفوقه قريبه ، فيقع التحاسد .
فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لهم ، و يرفعهم جهده ، و يرفق بهم ، لعله يسلم .
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : لي أقارب أصلهم فيقطعوني ؟
فقال : فكأنما تسفهم المل ، و لن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك .
· فصل : الأدب يتبع لطافة البدن و صفاء الروح
رأيت كلاب الصيد إذا مرت بكلاب المحلة نبحتها هذه ، و بالغت و أسرعت خلفها ، و كأنها تراها مكرمة مجللة فتحسدها على ذلك .
و رأيت كلاب الصيد حينئذ لا تلتفت إليها و لا تعيرها الطرف و لا تعد نباحها شيئاً ، فرأيت أن كلاب الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلاب .
لأن تلك غليظة البدن كشيفة الأعضاء لا أمانة لها ، و هذه لطيفة دقيقة الخلقة و معها آداب قد ناسبت خلقتها اللطيفة .
و أنها تحبس الصيد على مالكها خوفاً من عقابه ، أو مراعاة لشكر نعمته عليها .
فرأيت أن الأدب و حسن العشرة يتبع لطافة البدن و صفاء الروح .
و هكذا المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده و لا يعده شيئاً ، إذ هو في واد و ذاك في واد .
ذاك يحسده على الدنيا ، و هذا همته الآخرة ، فيا بعد ما بين الواديين .
· فصل : متى جرى ما لا نعرف حكمته فأنسبه إلى قصور علمك
هذا فصل ملاحظته من أهم الأشياء .
ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله . و يعلم أنه حكيم و مالك ، و أنه لا يعبث .
فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه ، و سلم للحكيم المالك . فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل قال : ما بانت لي ، فيجيب علي تسليم الأمر لمالكه .
و إن أقواماً نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق نسب فيها إلى ضد الحكمة ، فنسبوا الخالق إلى ذلك .
و هذا الكفر المحض ، و الجنون البارد .
و الواجب نسبة الجهل إلى النفوس ، لإغن العقول قاصرة مطالعة حكمته .
و أول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طيناً على نار ، و العقل يرى النار أفضل ، فعاب حكمته .
و عمت هذه المحنة خلقاً ممن ينسب إلى العلم و كثير من العوام .
فكم قد رأينا عالماً يعترض و عامياً يرد فيكفر ، و هذه محنة قد شملت أكثر الخلق .
يرون عالماً يضيق عليه ، و فاسقاً وسع عليه ، فيقولون هذا لا يليق بالحكمة .
و قد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات و الخراج و الجزية و الغنائم و الكفارات ليستغني بها الفقراء ، فإختص بذلك الظلمة .
و صانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها ، فجاع الفقير .
فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة و لا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء .
و قد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين في حبسهم الحقوق ، و ابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم .
و أكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من إعتراض يخرج إلى الكفر فتخرج النفس كافرة .
فكم عامي يقول : فلان قد ابتلى و ما يستحق .
و معناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب . و قد قال بعض الخلعاء :
أيا رب تخلق أقمار ليل و أغصان بان و كثبان رمل
و تنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل ؟؟
و مثل هذا ينشده جماعة من العلماء و يستحسنونه ، و هو كفر محض .
و ما فهم هؤلاء سر النهي و لا معناه ، لأنه ما نهى عن العشق ، و إنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة كالنظر و اللمس و الفعل القبيح .
و في الامتناع عن المشتهي دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء ، فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم .
و تسليم النفوس إلى القتل و الجهاد دليل على اليقين بالجزاء .
ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل .
كلا . لو تأمل و صبر قليلاً لربح كثيراً .
و لو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء و العوام لطال .
و من أحسن الناس حالاً في ذلك ، ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوماً و إشتد جوعه فجلس على الجسر و قد أمضه الجوع .
فمرت الخيل مزينة بالحرير و الديباج فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق غلام الخليفة .
فمرت جوار مستحسنات فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق .
فمر به رجل فرآه و عليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما و رمى بهما ، و قال : هذه لعلي بن بلتق و هذان لي ؟
نسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول و يعترض و يفعل أهل هذه المجاعة .
فيا معترضين و هم في غاية النقص على من لا عيب في فعله . أنتم في البداية من ماء و طين ، و في الثاني من ماء مهين ، ثم تحملون الأنجاس على الدوام ، و لو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفاً .
و كم من رأى يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه .
ثم لمعاصي منكم زائدة في الحد .
فما فيكم إلا الإعتراض على المالك الحكيم ؟ .
و لو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى .
و لو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم و لم يعدهم كان ذلك له ، لأنه مالك ، لكنه بفضله و عد بالإعادة و الجزاء و البقاء الدائم في النعيم .
فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب إلى قصور علمك .
و قد ترى مقتولاً ظلماً ، و كم قد قتل و ظلم حتى قوبل ببعضه .
و قل أن يجري لأحد آفة إلا و يستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا و رأينا الجزاء وحده .
فسلم تسلم ، و إحذر كلمة إعتراض أو إضمار ، فربما أخرجتك من دائرة الإسلام .
· فصل : الشبه بين يوم العيد و يوم القيامة
رأيت الناس يوم العيد فشبهت الحال بالقيامة . فإنهم لما انتبهوا من نومهم خرجوا إلى عيدهم كخروج الموتى من قبورهم إلى حشرهم ، فمنهم من زينته الغاية و مركبه انهاية ، و منهم المتوسط ، و منهم المرذول . و على هذا أحوال الناس يوم القيامة .
قال تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي ركبانا و نسوق المجرمين إلى جهنم ورداً أي عطاشاً .
و قال عليه الصلاة السلام : يحشرون ركباناً و مشاة و على وجوههم .
و من الناس من يداس في زحمة العيد ، و كذلك الظلمة يطأهم الناس بأقدامهم في القيامة .
و من الناس يوم العيد الغني المتصدق . كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة .
و منهم الفقير السائل الذي يطلب أن يعطى . كذلك يوم الجزاء أعددت شفاعتي لأهل الكبار .
و منهم من لا يعطف عليه فما لنا من شافعين * و لا صديق حميم .
و الأعلام منشورة في العيد . كذلك أعلام المتقين في القيامة ، و البوق يضرب .
كذلك يخبر بحال العبد فيقال : يا أهل الموقف ، إن فلاناً قد سعد سعادة لا شقاوة بعدها ، و إن فلاناً قد شقي شقاوة لا سعادة بعدها ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة يخبرون بإمتثال الأوامر أولئك المقربون فيخرج التوقيع إليهم كان سعيكم مشكوراً و من هو دونهم يختلف حاله . فمنهم من يرجع إلى بيت عامر بما أسلفتم في الأيام الخالية .
و منهم متوسط ، و منهم من يعود إلى بيت قفر فاعتبروا يا أولي الأبصار .
· فصل : نصيحة العلماء و الزهاد
يتضمن نصيحة للعلماء و الزهاد . يا قوم قد علمتم ، أن الأعمال بالنيات ، و قد فهمتم قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص و قد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون و لا يقولون حتى تتقدم النية و تصح .
أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل و الصياح ؟ و ترفع أصواتكم عند إجتماع العوام تقصدون المغالبة .
أو ما سمعتم [ من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس ، لم يرح رائحة الجنة ] .
ثم يقدم أحدكم على الفتوى و ليس من أهلها ، و قد كان السلف يتدافعونها .
و يا معشر المتزهدين إنه يعلم السر و أخفى . أتظهرون الفقر في لباسكم و أنتم تستوفون شهوات النفوس .
و تظهرون التخاشع و البكاء في الجلوات دون الخلوات .
كان ابن سيرين يضحك و يقهقه فإذا خلا بكى أكثر الليل .
و قال سفيان لصاحبه : [ ما أوقحك تصلي و الناس يرونك ؟ ]
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام و لا صبغ الحواجيب
آه للمرائي من يوم و حصل ما في الصدور و هي النيات .
فأفيقوا من سكركم ، و توبوا من زللكم ، و استقيموا على الجادة أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله .
· فصل : شبه في الزهد و بيانها
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة ، جارين على ما ألفوا من العادة .
و قد يخلص منهم فريقان : علماء و عباد .
فتأملت جمهور العلماء فرأيتم في تخليط ، منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا و يعرض عن معاملات الآخرة .
و إما لجهله بها ، أو لثقل أمرها عليه ، فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم ، و يتبع في الباقي العادات .
و ربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالماً ، و قد نسي أن العلم حجة عليه .
و منهم من هو واقف مع صورة العلم ، غافل عن المقصود بالعلم ، و فيهم من يخالط السلطان ، فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب و الظلم و لا يمكنه الإنكار .
و ربما مدح هو ، و يتأذى السلطان بصحبته فيقول : لو لا أني على صواب ما جالسني هذا .
و يتأذى العوام فيقولون : لو لا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العلم .
و رأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم ، و ينسون أن اليهود من بني إسرائيل .
و أما الفريق الثاني و هم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط . أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة في أكثر عملهم ، قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتباً فيها دقائن قبيحة ، و أحاديث غير صحيحة ، و يأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة .
مثل كتب الحارث المحاسب ي ، و أبي عبد الله الترمذي ، و قوت القلوب لأبي طالب المكي و كتاب الإحياء لأبي حامد الطوسي .
فإذا فتح المبتدئ عينه ، و هم بسلوك الطريق بهذه الكتب ، حملته إلى الخطايا ، لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة .
و يذمون الدنيا ، و لا يدرون ما المذموم منها .
فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا ، فيهرب المنقطع إلى الجبل ، و ربما فاتته الجماعة و الجمعة ، و يقتصر على البلوط و الكمثري فيورثه القولنج .
و يقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع ، أو يأكل الباقلاء و العدس فيحدث له قراقر .
و إنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولاً بالناقة ليصل .
ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه .
و ربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف و المتزهدين فبتبعهم المريد فيتأذى بذلك .
و متى رددنا ذلك المنقول و بينا خطأ فاعله قال الجهال : أترد على الزهاد ؟
و إنما ينبغي اتباع الصواب و لا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس .
فإنا نقول : قال أبو حنيفة ، ثم يخالفه الشافعي ، و إنما ينبغي أن يتبع الدليل .
قال المروذي ؟ : مدح أحمد بن حنبل النكاح ، فقلت له : قد قال إبراهيم بن أدهم ، فصاح و قال : وقعنا في بينات الطريق ، عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
و تكلم أحمد في الحارث المحاسبي و رد على سري السقطي حين قال : لما خلق الله الحروف وقف الألف و سجدت الباء ، فقال : نفروا الناس عنه ، فالحق لا ينبغي أن يحابى ، فإنه جد .
و إني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة ، و صار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم .
فيقال : قال أبو طالب المكي : [ كان من السلف من يزن قوته بكرية فينقص كل يوم ! ] .
و هذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه و إنما كانوا يأكلون دون الشبع .
فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهي عنه .
و يقول : قال داود الطائي لسفيان : [ إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت ؟ و كان ماؤه في دن ] .
و ما علم أن للنفس حظاً ، و أن شرب الماء الحار يرهل المعدة و يؤذي ، و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبرد الماء .
و يقول آخر منهم : منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه .
و يقول آخر : أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي .
أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة ؟
و هذا ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن كان الورع حسناً ، و لكن لا على حمل المشاق الشديدة .
و هذا بشر الحافي يقول : لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث ، و هذا تعليل لا يصلح ، لأن الإنسان مأمور بالنكاح ، و هو من أكبر المشتهي .
و كان بشر حافياً حتى قيل له الحافي ، و لو ستر أمره بنعلين كان أصلح .
و الحفاء يؤذي العين ، و ليس من أمر الدنيا في شيء . فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نعلان .
و ما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك و يمزح و يختار المستحسنات و يسابق عائشة رضي الله عنه ، و كان يأكل اللحم ، و يحب الحلوى ، و يستعذب له الماء .
و على هذا كان طريقه أصحابه ، فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة ، و كلها على غير الجادة .
و يحتجون بقول المحاسبي و المكي ، و لا يحتج أحد منهم بصحابي و لا تابعي و لا بإمام من أئمة الإسلام .
فإن رأوا عالماً لبس ثوباً جميلاً ، أو تزوج مستحسنة ، أو أفطر بالنهار ، أو ضحك ، عابوه .
فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم .
حتى أن بعضهم يقول : منذ ثمانين سنة ما اضطجعت .
و يقول آخر : حلفت لا أشرب الماء سنة .
و هؤلاء على غير الصواب ، فإن للنفس حقاً .
فأما من ساء قصده ممن نافق و راءى لاجتلاب الدنيا و تقبيل الأيدي فلا كلام معه ، و هم جمهور المتصوفة ، فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة ، و ما معهم أحسن من السفلاطون . و إنما رفع القدماء للفقر .
فهم في اللذات و جمع المال و أخذ الشبهات و استعمال الراحة و اللعب و مخالطة السلاطين .
و هؤلاء قد كشفوا القناع ، و باينوا زهد أوائلهم .
بلى : أعجب منهم من ينفق عليهم !!
· فصل : من أدلة البعث
إن الله عز وجل جعل لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها .
فمن أمثلة أحواله القمر الذي يبتدئ صغيراً ، ثم يتكامل بدراً ، ثم يتناقض بانمحاق . و قد يطرأ عليه ما يفسده كالكسوف .
فكذلك الآدمي أوله نطفة ، ثم يترقى من الفساد إلى الصلاح ، فإذا تم كان بمنزلة البدر الكامل .
ثم تتناقض أحواله بالضعف ، فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر .
قال الشاعر :
و المرء مثل هلال عند طلعته يبدو ضئيلاً لطيفاً ثم يتسق
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه كر الجديدين نقصاً ثم ينمحق
و من أمثلة حاله ، دود القز فإنه يكون حياً إلى أن نبتدئ نبات قوته و هو ورق الفرصاد .
فإذا اخضر الورق دبت الروح فيه . ثم ينتقل من حال إلى حال كإنتقال الطفل .
ثم يرقد كغفلة الآدمي عن النظر في العواقب ثم ينتبه فيحرص على الأكل كحرص الشره على تحصيل الدنيا .
ثم يسدي على نفسه كما يخطب الآدمي الأوزار على دينه ، فيرتهن في ذلك الحبس كما يرتهن الميت في قبره .
ثم يقرض فيخرج خلقاً آخر كما تنشر الموتى غرلاً بهماً .
و قد دله على البعث تكون النطفة كالميت . ثم تصير آدمياً .
و إلقاء الحب تحت الأرض فيفسد ثم يهتز خضراً .
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
· فصل : إيثار اللذة يفوت الخير الكثير
إنما فضل العقل بتأمل العواقب ، فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة ، و لا ينظر إلى عاقبتها .
فإن اللص يرى أخذ المال و ينسى قطع اليد . و البطال يرى لذة الراحة و ينسى ما تجنى من فوات العلم و كسب المال .
فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر ، و إذا احتاج سأل فذل ، فقد أربى ما حصل له من على لذة البطالة . ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا .
و كذلك شارب الخمر ، يلتذ تلك الساعة و ينسى ما يجني من الآفات في الدنيا و الآخرة .
و كذلك الزنا ، فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة ، و سنى ما يجني منه من فضيحة الدنيا و الحد .
و ربما كان للمرأة زوج فألحقت الحمل من هذا به و تسلسل الأمر .
فقس على هذه و انتبه للعواقب ، و لا تؤثر لذة تفوت خيراً كثيراً ، و صابر المشقة تحصل ربحاً وافراً .
· فصل : لا يصح الدين مع تحصيل الملذات
ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد .
بلى ، قد يقع في صفاء حالهما كدر . و هو أن العالم يشتغل بالعلم أو بالانقطاع عن الكسب ، و قد يكون له عائلة ، فربما تعرض بالسلطان ففسد حاله . و كذلك الزاهد .
فينبغي للعالم و العابد أن يتحركا في معاش كنسخ بأجرة أو عمل الخوص ، و إن فتح له بشيء اقتنع باليسير فلا يستعبده أحد .
كما كان أحمد بن حنبل له أجرة لعلها لا تبلغ ديناراً يتقوت بها .
و متى لم يقنع أفسدت مخالطة السلاطين و العوام دينه .
و في الناس من يريد التوسع في المطاعم ، و منهم من لا يوافقه خشن العيش ، و هيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات .
و إذا قنع العالم و الزاهد بما يكفي ، لم يتبذل أحدهما للسلطان ،و لم يستخدم بالتردد إلى بابه ، و لم يحتج الزاهد إلى تصنع .
و العيش اللذيذ للمنقطع الذي لا يتبذل به و لا يحمل منه .
· فصل : التفاوت بين العلماء في الأصول و الفروع
ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم ، حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول و الفروع .
ترى أقواماً يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس كقول قائلهم : ينزل بذاته إلى السماء و ينتقل .
و هذا فهم رديء لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان ، و يوجب ذلك كون المكان أكثر منه و يلزم منه الحركة و كل ذلك محال على الحق عز وجل .
و أما في الفروع فكما يروى عن داود أنه في قوله صلى الله عليه و سلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه . فقال : إن بال غيره جاز .
فما يفهم المراد من التنجيس بل يأخذ بمجرد اللفظ .
و كذلك يقول : لحم الخنزير حرام لا جلده . نعوذ بالله من سوء الفهم .
و كذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال كقول قائلهم :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى و أسيافنا يقطرن من نجدة دما
و الجفنات عدد يسير . فلو قال : الجفان لكان أبلغ ، و لو قال : بالدجى لكان أحسن ، و يقطرن دليل على القلة . و كذلك قول القائل :
همها العطر و الفراش و يعلو ها لجين منظم و لآلى
و هذا قاصر ، فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها . إنما المادح هو القائل :ألم ترى أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً و إن لم تطيب و كذا قول القائل : أدعو إلي هجرها قلبي فيتبعني حتى إذا قلت هذا صادق نزعاً و لو كان صادقاً في المحبة لما كان له قلب يخاطبه . و إذا خاطبه في الهجر لم يوافقه . إنما المحب الصادق هو القائل :يقولون لو عاتبت قلبك لا رعوى فقلت و هل للعاشقين قلوب و مثل هذا إذا نوقش كثير .
فأقل موجود في الناس الفهم و الغوص على دقائق المعاني . فصل : اللذات مشوبة بالمنغصات
من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً ، فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافاً .
فمن اللذات النساء. فربما يثبت المستحسنة ، و ربما لم تحب الزوج ، فمتى علم ذلك يعزل عنها ، و ربما خانت ، و ذلك الهلاك فإن تمت المرادات فذكر الفراق زائد في التألم على الالذاذ .
و من اللذات الولد و مقاساة البنت إلى أن تتزوج ، و ما تلفى من زوجها وخوف عارها محن قبيحة .والابن إن مرض ذاب الفؤاد و إن خرج عن حد الصلاح زاد الأسف ، و إن كان عدواً فمراده هلاك الأب ، ثم إن تم المراد فذكر فراقه يذيب القلوب .
و لو أن فاسقاً أحب بعض المردان انهتك عرضه في الدنيا وذهب دينه .
ثم لا يلبث أن تتغير حيلته ، فيصبر مبغوضاً مع ما سبق الهتكة و الإثم .
و كم قد غلبت شهوة رجل وطىء الجواري السود فجاء الولد أسود ، فبقي عاراً عليه .
و من هذا الجنس الالتذاذ بالمال ، و في تحصيله آثام ، و فراقه حسرة ، و ذهاب العمر فيه غبن .
و هذا أنموذج لما لم يذكر فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين و البدن و العافية ، و يهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته .
و من صبر على ما يكره قصد النفع في العافية إلتذ أضعافاً ، كطالب العلم فإنه بتعب يسيراً و ينال خير الدارين مع سلامة العاقبة .
و لذة البطالة تعقب عدم العلم و العمل ، فيزيد الأسى على اللذة أضعافاً .
فالله الله أن يغلبك هواك العاجل ، و متى هم الهوى بالتوبة فامنعه وزن عاجله بآجله . و ما يتذكر إلا أولو الألباب .
· فصل : عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا
رأيت إبليس قد إحتال بفنون الحيل على الخلق ، و أمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح السالك ، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل ، و شغلهم بأمور الحس ، و لا يلتفتون إلى مشورة العقل .
فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب ، إعترض فكفر .
فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر ، و منهم من يسب الدنيا .
و هذا إسفاف ، لأن الدهر و الدنيا لا يفعلان ، و إنما هو عيب للمقدر .
و منهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة ، فيقول : أي فائدة في نقض المبني ؟
و زعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض ، و أنكروا البعث ، و يقولون : ما جاء من ثم أحد .
و نسوا أن الوجود ما انتهى بعد ، و لو خلفنا لصار الإيمان بالغيب عيانا . و لا يصلح أن يستدل على الأحياء بالأحياء .
ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوام . فحسن لهم علوم الكلام و صاروا يحتجون بقول أبقراط و جالينوس و فيثاغورس .
و هؤلاء ليسوا بمتشرعين و لا تبعوا نبينا صلى الله عليه و سلم ، إنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم أنفسهم .
و قد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن و سماع الحديث ، فيثبت الإيمان في قلبه .
فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل ، و ينبذ أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم ، و يقول : أخبار آحاد .
و أصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية .
و يعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة و الهيولى و الجزء الذي لا يتجزأ .
ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق ، فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بواقعاتهم .
فيقول المعتزلة : [ إن الله لا يرى لأن المرئي يكون في جهة ] و يخالفون قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته ، و إن عجزنا عن فهم كيفيتها .
و قد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن ، و قالوا ، مخلوق ، فزالت حرمته من القلوب .
و عن السنة و قالوا أخبار آحاد . و إنما مذاهبهم السرقة من أبقراط و جالينوس .
و قد إستفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نقسه عن تعب الصلاة و الصوم ، و قد كان كبار العلماء يذمون علم الكلام ، حتى قال الشافعي : [ حكمي فيهم أن يركبوا على البغال و يشهروا و يقال : هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و إشتغل بالكلام ] .
وقد آل بهم الأمر إلى أن إعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم .
فا الله الله من مخالطة المبتدعة . و عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا .
· فصل : الوقت كالسيف رايت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان ، و كان القدماء يحذرون من ذلك .قال الفضيل : أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة .
و دخلوا على رجل من السلف فقالوا : لعلنا شغلناك ، فقال : أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم .
و جاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي ، فرأى عنده جماعة ، فقال : صرت مناخ البطالين ثم مضى و لم يجلس .
و متى لأن المزور طمع فيه الزائر ، فأطال الجلوس ، فلم يسلم من أذى .و قد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا فقال : إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها أفما تريدون القيام ؟ .
و ممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس ، قال له رجل : قف أكلمك ، قال : فأمسك الشمس .و قيل لكرز بن وبرة : لو خرجت إلى الصحراء ، فقال : يبطل الزوجار .و كان داود الطائي يستف الفتيت و يقول : بين سف الفتيت و أكل الخبز قراءة خمسين آية .
و كان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى ، فقال إني و قت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالكل عن الذكر . و أوصى بعض السلف أصحابه فقال : إذا خرجتم من عندي فتفرقوا ، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه . و متى إجتمعتم تحدثتم .و أعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة ، فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من قال سبحان الله العظيم و بحمده ، غرست له بها نخلة في الجنة .
فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل ، و هذه الأيام مثل المزرعة ، فكأنه قيل للإنسان . كلما بذرت حبة خرجنا لك ألف كر ، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر و يتوانى ؟
و الذي يعين على إغتنام الزمان الإنغراد و العزلةمهما أمكن ، و الإختصار علىالسلام أو حاجة مهمة لمن يلقى .
و قلة الأكل ، فإن كثرته سبب النوم الطويل و ضاع الليل .
و من نظر في سير السلف و آمن بالجزاء بان له ما ذكرته .
· فصل : المعاشرة الزوجية أساسها المحبة
ينبغي للعاقل أن يتخير إمرأة صالحة ، من بيت صالح ، يغلب عليها الفقر لترى ما يأتيها به كثيراً ، و ليتزوج من يقاربه في السن .فأما الشيخ فإنه إذا تزوج صبية آذاها ، و ربما فجرت ، أو قتلته ، أو طلب الطلاق و هو يحبها فيتأذى .
و ليتمم نقصه بحسن الأخلاق و كثرة النفقة .
و لا ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيراً فتمل ، و لا تبعد عنه فينساها . ولتكن وقت قربها إليه كاملة النظامة متحسنة ، و لتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله ، فإن جسم الإنسان ليس بمستحسن .
و كذلك ينبغي ألا يريها جسمه ، و إنما الجماع في الفراش .
و رأى كسرى يوماً كيف يسلخ الحيوان و يطبخ ، فتقلبت نفسه ، و نفي اللحم ، فذكر ذلك لوزيره ، فقال : أيها الملك ، الطبيخ على المائدة و المرأة في الفراش ،و معناه لا تفتش على ذلك .
فقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا رآه مني ، و قام ليلة عرياناً فما رأيت جسمه قبلها . وهذا الحزم ، و بذلك لا يعيب الرجل المرأة لأنه ير عيوبها .و ليكن للمرأة فراش و له فراش ، فلا يجتمعان إلا في حال الكمال . ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة متبذلة تقول : هذا أبو أولادي ، و يتبذل هو فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي ، فبنظر القلب و تبقى المعاشرة بغير المحبة .
و هذا فضل ينبغي تأمله و العمل به فإنه أصل عظيم .
· فصل : من أذل نفسه خسر الدنيا و الآخرة
لا عيش في الدنيا إلا للقنوع بالسير ، فإنه كلما زاد الحرص على فضول زاد الهم ، و تشتت القلب ، و استعبد العبد .
و أما القنوع فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه ، و لا يبالي بمن هو مثل ، إذ عنده ما عنده .
و إن أقواماً لم يقنعوا و طلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم ، و ذلوا لغيرهم .
و خصوصاً أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فإستعبدوهم ، و رأوا المنكرات ، فلم يقدروا على إنكارها ،و ربما مدحوا الظالم اتقاء لشره .
فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا .
و من أقبح الناس حالا من تعرض للقضاء و الشهادة ، و لقد كانتا مرتبتين حسنتين .و كان عبد الحميد القاضي لا يحابي ، فبعث إلى المعتضد و قال له : [ قد إستأجرت وقوفاً فأد أجرتها ، ففعل ] .و قال له المعتضد : [ قد مات فلان و لنا عليه مال ، فقال : أنت تذكر لما وليتني قلت لي : قد أخرجت هذا الأمر من عنقي و وضعته في عنفك ، و لا أقبل هذا الذي تقول إلا بشاهدين ].
و كذلك كان الشهود ، دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم : [ إشهدوا على مولانا بكذا ، فشهدوا ، فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال : يا أمير المؤمنين ، أشهد عليك بما في هذا الكتاب ، فقال : أشهد ]قال : إنه يكتفي في ذلك ، لا أشهد حتى تقول نعم ، قال : نعم .
فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل ، خصوصاً من يتقرب . إليه بالمال ليستشهد فتراه يسحب ليشهد على ما لا يرى
قال لي أبو المعالي بن شافع : [ كنت أحمل إلى بعض أهل السواد ، و هو محبوس و أشهد عليه . و أنا أستغفر الله من ذلك ] .
و ليس للشهود جراية فيحملون ذلك لجلها ، و إنما الذي يحصل جر الطيلسان ، و طرق الباب ، و قول المعرف : حرس الله نعمتك ، شهادة.و لما قيل لإبراهيم النخعي : [ تكون قاضياً .ليس قميصاً أحمر و جلس في السوق . فقالوا كان هذا لا يصلح ] .
و دخل بعض الكبار على الرشيد ـ و قد أحضره ليوليه القضاء ـ فسلم و قال له : [ كيف أنت و كيف الصبيان ؟ ]
فقيل : هذا مجنون ، فيا لله جنون هو العقل .و ما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلاً في أكثر القلوب .نسأله الله سبحانه و سلامة الدين فإنه قادر .
· فصل : العبث على الله محال
قد تكرر معناه في هذا الكتاب ، إلا أن إعادته على النفوس مهمة لئلا يغفل عن مثله .ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث ، و هذا العلم يوجب نفي الإعتراض على القدر .
و قد لهج خلق بالإعتراض قدحاً في الحكمة ، و ذلك كفر .
و أولهم إبليس في قوله : خلقتني من نار و خلقته من طين .
و معنى قوله : أن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة .و قد رأيت من كان فقيهاً دأبه الإعتراض .و هذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل ، و لو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا حسن أن يعترض عليه .فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته ، فإعتراض الناقص الجاهل عليه جنون .فأما إعتراض الخلعاء فدائم ، لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم ، فمتى إنكسر لأحدهم إعتراض .
و فيهم من يتعدى إلى ذكر الموت فيقول : بنى و نقض .
و كان لنا رفيق قرأ القرآن و القراءات و سمع الحديث الكثير ، ثم وقع في الذنوب و عاش أكثر من سبعين سنة ، فلما نزل به الموت ذكر لي انه قال : [ قد ضاقت الدنيا إلا من روحي ] .
و من هذا الجنس سمعت شخصاً يقول عند الموت : ربي يظلمني . و هذا كثير .و يكره أن يحكى كلام الخلعاء في جنونهم و إعتراضاتهم الباردة .و لو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة و مارستان صبر ليبين بذلك أثر الخالق ، لما إعترضوا .
و الذي طلبوه من السلامة و بلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا .
فهم كالزور جاري يتلوث بالطين ، فإذا فرغ لبس ثياب النظافة .
و لما أريد نقض هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نحيت عنه النفس الشريفة و بني بناء يقبل الدوام .و بعد هذا فقل للمعترض : فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .قل له : إن إعترض لم يمنع ذلك جريان القدر ، و إن سلم جرى القدر . فلأن يجري و هو مأجور ، خير من أن يجري و هو مأزور .و ما أحسن سكوت وضاح اليمن لما إختبأ في صندوق ، فقال السلطان : [ أيها الصندوق ، إن كان فيك ما نظن فقد محونا أثرك ] .و إن لم يكن فليس بدفن خشب من جناح .
فلو أنه صاح ما إنتفع بشيء ، و لربما أخرج فقتل أقبح قتلة .
· فصل : إجتماع الهمة في خدمة الحق
من تلمح أحوال الدنيا ، علم أن مراد الحق سبحانه إجتنابها .
فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة ، و إلى جانب كل راحة تعباً ، و آخر كل لذة نقصاً يزيد عليها .
و ما رفع شيء من الدنيا إلا و وضع .
أحب الرسول صلى الله عليه و سلم عائشة رضي الله عنها ، فجاء حديث الإفك .
و مال إلى زينب ، فجاء : فلما قضى زيد منها وطراً .
ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه فعين العقل ترى فراقه فيتنغص عند وجوده ، كما قال الشاعر :
أتم الحزن عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا ، فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة و ترك الشواغل ، فيجتمع الهم في خدمة الحق .و من عدل عن ذلك ندم على الفوات .
· فصل : نصائح شتى العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا .
فإن كان فقيراً إجتهد في كسب و صناعة تكفه عن الذل للخلق ، و قلل العلائق ، و إستعمل القناعة ، فعاش سليما من منن الناس عزيزاً بينهم . وإن كان غنياً فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق .
و من البلية أن يبذر في النفقة و يباهي بها ليكمد الأعداء .
كأنه يتعرض بذلك ـ إن أكثر ـ لإصابته بالعين .
و ينبغي التوسط في الأحوال ، و كتمان ما يصلح كتمانه .
و لقد وجد بعض الغسالين مالاً فأكثر النفقة ، فعلم به ، فأخذ منه المال ، و عاد إلى الفقر .
و إنما التدبير حفظ المال ، و التوسط في الإنفاق ، و كتمان ما لا يصلح إظهاره .
و من الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال ، فإنه إن كان قليلاً هان عندها الزوج ، و إن كان كثيراً طلبت زيادة الكسوة و الحلى
قال الله عز وجل : و لا تؤتوا السفهاء أموالكم و كذلك الولد .
و كذلك الأسرار ، ينبغي أن تحفظ و أن يحذر منها ، و من الصديق ، فربما إنقلب ، فقد قال الشاعر :
إحذر عدوك مرة و احذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
بحمد الله تعالى قد نجز ما توخاه الفكر الفاتر من تقييد ما جمعه القلم من صيد الخاطر ، مقتصراً فيه على ما به التخلي من الأمراض النفسية ، و التخلي بالآداب الشرعية و الأخلاق المرضية .جعله الله تعالى خير هاد على منبر الوعظ و الإرشاد ، و أنفع كتاب تجلى في مرايا الظهور لهداية العباد .
و الحمد لله أولاً و آخراً ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم .
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة .
و ما أرى لذلك سكراً إلا باللسان .
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً .
و لو كشف للناس بعضها لاستحييت .
و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
قال لنفسه : يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
كما يقال للمصارع الفاره .
ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له .
و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة .
إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، و سقطت عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها .
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
بين الأصحاب .
و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت .
و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها .
و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه .
و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي .
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي .
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم .
فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .
· فصل : وزن الأعمال في الدنيا قبل موازين الآخرة
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة .
و ما أرى لذلك سكراً إلا باللسان .
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً .
و لو كشف للناس بعضها لاستحييت .
و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
قال لنفسه : يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
كما يقال للمصارع الفاره .
ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له .
و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة .
إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، و سقطت عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها .
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
بين الأصحاب .
و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت .
و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها .
و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه .
و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي .
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي .
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم .
فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .
· فصل : عداء الأقارب صعب
عداوة الأقارب صعبة ، و ربما دامت كحرب بكر و تغلب ابني وائل ، و عبس و ذبيان ابني بغيض ، و الأوس و الخزرج ابني قيلة .
قال الجاحظ : [ ركدت هذه الحرب أربعين عاماً ] .
و السبب في هذا أن كل واحد من الأقارب يكره أن يفوقه قريبه ، فيقع التحاسد .
فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لهم ، و يرفعهم جهده ، و يرفق بهم ، لعله يسلم .
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : لي أقارب أصلهم فيقطعوني ؟
فقال : فكأنما تسفهم المل ، و لن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك .
· فصل : الأدب يتبع لطافة البدن و صفاء الروح
رأيت كلاب الصيد إذا مرت بكلاب المحلة نبحتها هذه ، و بالغت و أسرعت خلفها ، و كأنها تراها مكرمة مجللة فتحسدها على ذلك .
و رأيت كلاب الصيد حينئذ لا تلتفت إليها و لا تعيرها الطرف و لا تعد نباحها شيئاً ، فرأيت أن كلاب الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلاب .
لأن تلك غليظة البدن كشيفة الأعضاء لا أمانة لها ، و هذه لطيفة دقيقة الخلقة و معها آداب قد ناسبت خلقتها اللطيفة .
و أنها تحبس الصيد على مالكها خوفاً من عقابه ، أو مراعاة لشكر نعمته عليها .
فرأيت أن الأدب و حسن العشرة يتبع لطافة البدن و صفاء الروح .
و هكذا المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده و لا يعده شيئاً ، إذ هو في واد و ذاك في واد .
ذاك يحسده على الدنيا ، و هذا همته الآخرة ، فيا بعد ما بين الواديين .
· فصل : متى جرى ما لا نعرف حكمته فأنسبه إلى قصور علمك
هذا فصل ملاحظته من أهم الأشياء .
ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله . و يعلم أنه حكيم و مالك ، و أنه لا يعبث .
فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه ، و سلم للحكيم المالك . فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل قال : ما بانت لي ، فيجيب علي تسليم الأمر لمالكه .
و إن أقواماً نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق نسب فيها إلى ضد الحكمة ، فنسبوا الخالق إلى ذلك .
و هذا الكفر المحض ، و الجنون البارد .
و الواجب نسبة الجهل إلى النفوس ، لإغن العقول قاصرة مطالعة حكمته .
و أول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طيناً على نار ، و العقل يرى النار أفضل ، فعاب حكمته .
و عمت هذه المحنة خلقاً ممن ينسب إلى العلم و كثير من العوام .
فكم قد رأينا عالماً يعترض و عامياً يرد فيكفر ، و هذه محنة قد شملت أكثر الخلق .
يرون عالماً يضيق عليه ، و فاسقاً وسع عليه ، فيقولون هذا لا يليق بالحكمة .
و قد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات و الخراج و الجزية و الغنائم و الكفارات ليستغني بها الفقراء ، فإختص بذلك الظلمة .
و صانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها ، فجاع الفقير .
فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة و لا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء .
و قد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين في حبسهم الحقوق ، و ابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم .
و أكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من إعتراض يخرج إلى الكفر فتخرج النفس كافرة .
فكم عامي يقول : فلان قد ابتلى و ما يستحق .
و معناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب . و قد قال بعض الخلعاء :
أيا رب تخلق أقمار ليل و أغصان بان و كثبان رمل
و تنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل ؟؟
و مثل هذا ينشده جماعة من العلماء و يستحسنونه ، و هو كفر محض .
و ما فهم هؤلاء سر النهي و لا معناه ، لأنه ما نهى عن العشق ، و إنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة كالنظر و اللمس و الفعل القبيح .
و في الامتناع عن المشتهي دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء ، فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم .
و تسليم النفوس إلى القتل و الجهاد دليل على اليقين بالجزاء .
ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل .
كلا . لو تأمل و صبر قليلاً لربح كثيراً .
و لو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء و العوام لطال .
و من أحسن الناس حالاً في ذلك ، ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوماً و إشتد جوعه فجلس على الجسر و قد أمضه الجوع .
فمرت الخيل مزينة بالحرير و الديباج فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق غلام الخليفة .
فمرت جوار مستحسنات فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق .
فمر به رجل فرآه و عليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما و رمى بهما ، و قال : هذه لعلي بن بلتق و هذان لي ؟
نسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول و يعترض و يفعل أهل هذه المجاعة .
فيا معترضين و هم في غاية النقص على من لا عيب في فعله . أنتم في البداية من ماء و طين ، و في الثاني من ماء مهين ، ثم تحملون الأنجاس على الدوام ، و لو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفاً .
و كم من رأى يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه .
ثم لمعاصي منكم زائدة في الحد .
فما فيكم إلا الإعتراض على المالك الحكيم ؟ .
و لو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى .
و لو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم و لم يعدهم كان ذلك له ، لأنه مالك ، لكنه بفضله و عد بالإعادة و الجزاء و البقاء الدائم في النعيم .
فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب إلى قصور علمك .
و قد ترى مقتولاً ظلماً ، و كم قد قتل و ظلم حتى قوبل ببعضه .
و قل أن يجري لأحد آفة إلا و يستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا و رأينا الجزاء وحده .
فسلم تسلم ، و إحذر كلمة إعتراض أو إضمار ، فربما أخرجتك من دائرة الإسلام .
· فصل : الشبه بين يوم العيد و يوم القيامة
رأيت الناس يوم العيد فشبهت الحال بالقيامة . فإنهم لما انتبهوا من نومهم خرجوا إلى عيدهم كخروج الموتى من قبورهم إلى حشرهم ، فمنهم من زينته الغاية و مركبه انهاية ، و منهم المتوسط ، و منهم المرذول . و على هذا أحوال الناس يوم القيامة .
قال تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي ركبانا و نسوق المجرمين إلى جهنم ورداً أي عطاشاً .
و قال عليه الصلاة السلام : يحشرون ركباناً و مشاة و على وجوههم .
و من الناس من يداس في زحمة العيد ، و كذلك الظلمة يطأهم الناس بأقدامهم في القيامة .
و من الناس يوم العيد الغني المتصدق . كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة .
و منهم الفقير السائل الذي يطلب أن يعطى . كذلك يوم الجزاء أعددت شفاعتي لأهل الكبار .
و منهم من لا يعطف عليه فما لنا من شافعين * و لا صديق حميم .
و الأعلام منشورة في العيد . كذلك أعلام المتقين في القيامة ، و البوق يضرب .
كذلك يخبر بحال العبد فيقال : يا أهل الموقف ، إن فلاناً قد سعد سعادة لا شقاوة بعدها ، و إن فلاناً قد شقي شقاوة لا سعادة بعدها ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة يخبرون بإمتثال الأوامر أولئك المقربون فيخرج التوقيع إليهم كان سعيكم مشكوراً و من هو دونهم يختلف حاله . فمنهم من يرجع إلى بيت عامر بما أسلفتم في الأيام الخالية .
و منهم متوسط ، و منهم من يعود إلى بيت قفر فاعتبروا يا أولي الأبصار .
· فصل : نصيحة العلماء و الزهاد
يتضمن نصيحة للعلماء و الزهاد . يا قوم قد علمتم ، أن الأعمال بالنيات ، و قد فهمتم قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص و قد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون و لا يقولون حتى تتقدم النية و تصح .
أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل و الصياح ؟ و ترفع أصواتكم عند إجتماع العوام تقصدون المغالبة .
أو ما سمعتم [ من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس ، لم يرح رائحة الجنة ] .
ثم يقدم أحدكم على الفتوى و ليس من أهلها ، و قد كان السلف يتدافعونها .
و يا معشر المتزهدين إنه يعلم السر و أخفى . أتظهرون الفقر في لباسكم و أنتم تستوفون شهوات النفوس .
و تظهرون التخاشع و البكاء في الجلوات دون الخلوات .
كان ابن سيرين يضحك و يقهقه فإذا خلا بكى أكثر الليل .
و قال سفيان لصاحبه : [ ما أوقحك تصلي و الناس يرونك ؟ ]
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام و لا صبغ الحواجيب
آه للمرائي من يوم و حصل ما في الصدور و هي النيات .
فأفيقوا من سكركم ، و توبوا من زللكم ، و استقيموا على الجادة أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله .
· فصل : شبه في الزهد و بيانها
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة ، جارين على ما ألفوا من العادة .
و قد يخلص منهم فريقان : علماء و عباد .
فتأملت جمهور العلماء فرأيتم في تخليط ، منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا و يعرض عن معاملات الآخرة .
و إما لجهله بها ، أو لثقل أمرها عليه ، فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم ، و يتبع في الباقي العادات .
و ربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالماً ، و قد نسي أن العلم حجة عليه .
و منهم من هو واقف مع صورة العلم ، غافل عن المقصود بالعلم ، و فيهم من يخالط السلطان ، فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب و الظلم و لا يمكنه الإنكار .
و ربما مدح هو ، و يتأذى السلطان بصحبته فيقول : لو لا أني على صواب ما جالسني هذا .
و يتأذى العوام فيقولون : لو لا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العلم .
و رأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم ، و ينسون أن اليهود من بني إسرائيل .
و أما الفريق الثاني و هم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط . أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة في أكثر عملهم ، قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتباً فيها دقائن قبيحة ، و أحاديث غير صحيحة ، و يأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة .
مثل كتب الحارث المحاسب ي ، و أبي عبد الله الترمذي ، و قوت القلوب لأبي طالب المكي و كتاب الإحياء لأبي حامد الطوسي .
فإذا فتح المبتدئ عينه ، و هم بسلوك الطريق بهذه الكتب ، حملته إلى الخطايا ، لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة .
و يذمون الدنيا ، و لا يدرون ما المذموم منها .
فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا ، فيهرب المنقطع إلى الجبل ، و ربما فاتته الجماعة و الجمعة ، و يقتصر على البلوط و الكمثري فيورثه القولنج .
و يقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع ، أو يأكل الباقلاء و العدس فيحدث له قراقر .
و إنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولاً بالناقة ليصل .
ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه .
و ربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف و المتزهدين فبتبعهم المريد فيتأذى بذلك .
و متى رددنا ذلك المنقول و بينا خطأ فاعله قال الجهال : أترد على الزهاد ؟
و إنما ينبغي اتباع الصواب و لا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس .
فإنا نقول : قال أبو حنيفة ، ثم يخالفه الشافعي ، و إنما ينبغي أن يتبع الدليل .
قال المروذي ؟ : مدح أحمد بن حنبل النكاح ، فقلت له : قد قال إبراهيم بن أدهم ، فصاح و قال : وقعنا في بينات الطريق ، عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
و تكلم أحمد في الحارث المحاسبي و رد على سري السقطي حين قال : لما خلق الله الحروف وقف الألف و سجدت الباء ، فقال : نفروا الناس عنه ، فالحق لا ينبغي أن يحابى ، فإنه جد .
و إني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة ، و صار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم .
فيقال : قال أبو طالب المكي : [ كان من السلف من يزن قوته بكرية فينقص كل يوم ! ] .
و هذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه و إنما كانوا يأكلون دون الشبع .
فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهي عنه .
و يقول : قال داود الطائي لسفيان : [ إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت ؟ و كان ماؤه في دن ] .
و ما علم أن للنفس حظاً ، و أن شرب الماء الحار يرهل المعدة و يؤذي ، و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبرد الماء .
و يقول آخر منهم : منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه .
و يقول آخر : أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي .
أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة ؟
و هذا ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن كان الورع حسناً ، و لكن لا على حمل المشاق الشديدة .
و هذا بشر الحافي يقول : لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث ، و هذا تعليل لا يصلح ، لأن الإنسان مأمور بالنكاح ، و هو من أكبر المشتهي .
و كان بشر حافياً حتى قيل له الحافي ، و لو ستر أمره بنعلين كان أصلح .
و الحفاء يؤذي العين ، و ليس من أمر الدنيا في شيء . فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نعلان .
و ما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك و يمزح و يختار المستحسنات و يسابق عائشة رضي الله عنه ، و كان يأكل اللحم ، و يحب الحلوى ، و يستعذب له الماء .
و على هذا كان طريقه أصحابه ، فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة ، و كلها على غير الجادة .
و يحتجون بقول المحاسبي و المكي ، و لا يحتج أحد منهم بصحابي و لا تابعي و لا بإمام من أئمة الإسلام .
فإن رأوا عالماً لبس ثوباً جميلاً ، أو تزوج مستحسنة ، أو أفطر بالنهار ، أو ضحك ، عابوه .
فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم .
حتى أن بعضهم يقول : منذ ثمانين سنة ما اضطجعت .
و يقول آخر : حلفت لا أشرب الماء سنة .
و هؤلاء على غير الصواب ، فإن للنفس حقاً .
فأما من ساء قصده ممن نافق و راءى لاجتلاب الدنيا و تقبيل الأيدي فلا كلام معه ، و هم جمهور المتصوفة ، فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة ، و ما معهم أحسن من السفلاطون . و إنما رفع القدماء للفقر .
فهم في اللذات و جمع المال و أخذ الشبهات و استعمال الراحة و اللعب و مخالطة السلاطين .
و هؤلاء قد كشفوا القناع ، و باينوا زهد أوائلهم .
بلى : أعجب منهم من ينفق عليهم !!
· فصل : من أدلة البعث
إن الله عز وجل جعل لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها .
فمن أمثلة أحواله القمر الذي يبتدئ صغيراً ، ثم يتكامل بدراً ، ثم يتناقض بانمحاق . و قد يطرأ عليه ما يفسده كالكسوف .
فكذلك الآدمي أوله نطفة ، ثم يترقى من الفساد إلى الصلاح ، فإذا تم كان بمنزلة البدر الكامل .
ثم تتناقض أحواله بالضعف ، فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر .
قال الشاعر :
و المرء مثل هلال عند طلعته يبدو ضئيلاً لطيفاً ثم يتسق
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه كر الجديدين نقصاً ثم ينمحق
و من أمثلة حاله ، دود القز فإنه يكون حياً إلى أن نبتدئ نبات قوته و هو ورق الفرصاد .
فإذا اخضر الورق دبت الروح فيه . ثم ينتقل من حال إلى حال كإنتقال الطفل .
ثم يرقد كغفلة الآدمي عن النظر في العواقب ثم ينتبه فيحرص على الأكل كحرص الشره على تحصيل الدنيا .
ثم يسدي على نفسه كما يخطب الآدمي الأوزار على دينه ، فيرتهن في ذلك الحبس كما يرتهن الميت في قبره .
ثم يقرض فيخرج خلقاً آخر كما تنشر الموتى غرلاً بهماً .
و قد دله على البعث تكون النطفة كالميت . ثم تصير آدمياً .
و إلقاء الحب تحت الأرض فيفسد ثم يهتز خضراً .
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
· فصل : إيثار اللذة يفوت الخير الكثير
إنما فضل العقل بتأمل العواقب ، فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة ، و لا ينظر إلى عاقبتها .
فإن اللص يرى أخذ المال و ينسى قطع اليد . و البطال يرى لذة الراحة و ينسى ما تجنى من فوات العلم و كسب المال .
فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر ، و إذا احتاج سأل فذل ، فقد أربى ما حصل له من على لذة البطالة . ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا .
و كذلك شارب الخمر ، يلتذ تلك الساعة و ينسى ما يجني من الآفات في الدنيا و الآخرة .
و كذلك الزنا ، فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة ، و سنى ما يجني منه من فضيحة الدنيا و الحد .
و ربما كان للمرأة زوج فألحقت الحمل من هذا به و تسلسل الأمر .
فقس على هذه و انتبه للعواقب ، و لا تؤثر لذة تفوت خيراً كثيراً ، و صابر المشقة تحصل ربحاً وافراً .
· فصل : لا يصح الدين مع تحصيل الملذات
ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد .
بلى ، قد يقع في صفاء حالهما كدر . و هو أن العالم يشتغل بالعلم أو بالانقطاع عن الكسب ، و قد يكون له عائلة ، فربما تعرض بالسلطان ففسد حاله . و كذلك الزاهد .
فينبغي للعالم و العابد أن يتحركا في معاش كنسخ بأجرة أو عمل الخوص ، و إن فتح له بشيء اقتنع باليسير فلا يستعبده أحد .
كما كان أحمد بن حنبل له أجرة لعلها لا تبلغ ديناراً يتقوت بها .
و متى لم يقنع أفسدت مخالطة السلاطين و العوام دينه .
و في الناس من يريد التوسع في المطاعم ، و منهم من لا يوافقه خشن العيش ، و هيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات .
و إذا قنع العالم و الزاهد بما يكفي ، لم يتبذل أحدهما للسلطان ،و لم يستخدم بالتردد إلى بابه ، و لم يحتج الزاهد إلى تصنع .
و العيش اللذيذ للمنقطع الذي لا يتبذل به و لا يحمل منه .
· فصل : التفاوت بين العلماء في الأصول و الفروع
ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم ، حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول و الفروع .
ترى أقواماً يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس كقول قائلهم : ينزل بذاته إلى السماء و ينتقل .
و هذا فهم رديء لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان ، و يوجب ذلك كون المكان أكثر منه و يلزم منه الحركة و كل ذلك محال على الحق عز وجل .
و أما في الفروع فكما يروى عن داود أنه في قوله صلى الله عليه و سلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه . فقال : إن بال غيره جاز .
فما يفهم المراد من التنجيس بل يأخذ بمجرد اللفظ .
و كذلك يقول : لحم الخنزير حرام لا جلده . نعوذ بالله من سوء الفهم .
و كذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال كقول قائلهم :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى و أسيافنا يقطرن من نجدة دما
و الجفنات عدد يسير . فلو قال : الجفان لكان أبلغ ، و لو قال : بالدجى لكان أحسن ، و يقطرن دليل على القلة . و كذلك قول القائل :
همها العطر و الفراش و يعلو ها لجين منظم و لآلى
و هذا قاصر ، فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها . إنما المادح هو القائل :ألم ترى أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً و إن لم تطيب و كذا قول القائل : أدعو إلي هجرها قلبي فيتبعني حتى إذا قلت هذا صادق نزعاً و لو كان صادقاً في المحبة لما كان له قلب يخاطبه . و إذا خاطبه في الهجر لم يوافقه . إنما المحب الصادق هو القائل :يقولون لو عاتبت قلبك لا رعوى فقلت و هل للعاشقين قلوب و مثل هذا إذا نوقش كثير .
فأقل موجود في الناس الفهم و الغوص على دقائق المعاني . فصل : اللذات مشوبة بالمنغصات
من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً ، فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافاً .
فمن اللذات النساء. فربما يثبت المستحسنة ، و ربما لم تحب الزوج ، فمتى علم ذلك يعزل عنها ، و ربما خانت ، و ذلك الهلاك فإن تمت المرادات فذكر الفراق زائد في التألم على الالذاذ .
و من اللذات الولد و مقاساة البنت إلى أن تتزوج ، و ما تلفى من زوجها وخوف عارها محن قبيحة .والابن إن مرض ذاب الفؤاد و إن خرج عن حد الصلاح زاد الأسف ، و إن كان عدواً فمراده هلاك الأب ، ثم إن تم المراد فذكر فراقه يذيب القلوب .
و لو أن فاسقاً أحب بعض المردان انهتك عرضه في الدنيا وذهب دينه .
ثم لا يلبث أن تتغير حيلته ، فيصبر مبغوضاً مع ما سبق الهتكة و الإثم .
و كم قد غلبت شهوة رجل وطىء الجواري السود فجاء الولد أسود ، فبقي عاراً عليه .
و من هذا الجنس الالتذاذ بالمال ، و في تحصيله آثام ، و فراقه حسرة ، و ذهاب العمر فيه غبن .
و هذا أنموذج لما لم يذكر فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين و البدن و العافية ، و يهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته .
و من صبر على ما يكره قصد النفع في العافية إلتذ أضعافاً ، كطالب العلم فإنه بتعب يسيراً و ينال خير الدارين مع سلامة العاقبة .
و لذة البطالة تعقب عدم العلم و العمل ، فيزيد الأسى على اللذة أضعافاً .
فالله الله أن يغلبك هواك العاجل ، و متى هم الهوى بالتوبة فامنعه وزن عاجله بآجله . و ما يتذكر إلا أولو الألباب .
· فصل : عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا
رأيت إبليس قد إحتال بفنون الحيل على الخلق ، و أمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح السالك ، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل ، و شغلهم بأمور الحس ، و لا يلتفتون إلى مشورة العقل .
فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب ، إعترض فكفر .
فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر ، و منهم من يسب الدنيا .
و هذا إسفاف ، لأن الدهر و الدنيا لا يفعلان ، و إنما هو عيب للمقدر .
و منهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة ، فيقول : أي فائدة في نقض المبني ؟
و زعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض ، و أنكروا البعث ، و يقولون : ما جاء من ثم أحد .
و نسوا أن الوجود ما انتهى بعد ، و لو خلفنا لصار الإيمان بالغيب عيانا . و لا يصلح أن يستدل على الأحياء بالأحياء .
ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوام . فحسن لهم علوم الكلام و صاروا يحتجون بقول أبقراط و جالينوس و فيثاغورس .
و هؤلاء ليسوا بمتشرعين و لا تبعوا نبينا صلى الله عليه و سلم ، إنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم أنفسهم .
و قد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن و سماع الحديث ، فيثبت الإيمان في قلبه .
فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل ، و ينبذ أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم ، و يقول : أخبار آحاد .
و أصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية .
و يعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة و الهيولى و الجزء الذي لا يتجزأ .
ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق ، فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بواقعاتهم .
فيقول المعتزلة : [ إن الله لا يرى لأن المرئي يكون في جهة ] و يخالفون قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته ، و إن عجزنا عن فهم كيفيتها .
و قد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن ، و قالوا ، مخلوق ، فزالت حرمته من القلوب .
و عن السنة و قالوا أخبار آحاد . و إنما مذاهبهم السرقة من أبقراط و جالينوس .
و قد إستفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نقسه عن تعب الصلاة و الصوم ، و قد كان كبار العلماء يذمون علم الكلام ، حتى قال الشافعي : [ حكمي فيهم أن يركبوا على البغال و يشهروا و يقال : هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و إشتغل بالكلام ] .
وقد آل بهم الأمر إلى أن إعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم .
فا الله الله من مخالطة المبتدعة . و عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا .
· فصل : الوقت كالسيف رايت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان ، و كان القدماء يحذرون من ذلك .قال الفضيل : أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة .
و دخلوا على رجل من السلف فقالوا : لعلنا شغلناك ، فقال : أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم .
و جاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي ، فرأى عنده جماعة ، فقال : صرت مناخ البطالين ثم مضى و لم يجلس .
و متى لأن المزور طمع فيه الزائر ، فأطال الجلوس ، فلم يسلم من أذى .و قد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا فقال : إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها أفما تريدون القيام ؟ .
و ممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس ، قال له رجل : قف أكلمك ، قال : فأمسك الشمس .و قيل لكرز بن وبرة : لو خرجت إلى الصحراء ، فقال : يبطل الزوجار .و كان داود الطائي يستف الفتيت و يقول : بين سف الفتيت و أكل الخبز قراءة خمسين آية .
و كان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى ، فقال إني و قت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالكل عن الذكر . و أوصى بعض السلف أصحابه فقال : إذا خرجتم من عندي فتفرقوا ، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه . و متى إجتمعتم تحدثتم .و أعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة ، فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من قال سبحان الله العظيم و بحمده ، غرست له بها نخلة في الجنة .
فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل ، و هذه الأيام مثل المزرعة ، فكأنه قيل للإنسان . كلما بذرت حبة خرجنا لك ألف كر ، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر و يتوانى ؟
و الذي يعين على إغتنام الزمان الإنغراد و العزلةمهما أمكن ، و الإختصار علىالسلام أو حاجة مهمة لمن يلقى .
و قلة الأكل ، فإن كثرته سبب النوم الطويل و ضاع الليل .
و من نظر في سير السلف و آمن بالجزاء بان له ما ذكرته .
· فصل : المعاشرة الزوجية أساسها المحبة
ينبغي للعاقل أن يتخير إمرأة صالحة ، من بيت صالح ، يغلب عليها الفقر لترى ما يأتيها به كثيراً ، و ليتزوج من يقاربه في السن .فأما الشيخ فإنه إذا تزوج صبية آذاها ، و ربما فجرت ، أو قتلته ، أو طلب الطلاق و هو يحبها فيتأذى .
و ليتمم نقصه بحسن الأخلاق و كثرة النفقة .
و لا ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيراً فتمل ، و لا تبعد عنه فينساها . ولتكن وقت قربها إليه كاملة النظامة متحسنة ، و لتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله ، فإن جسم الإنسان ليس بمستحسن .
و كذلك ينبغي ألا يريها جسمه ، و إنما الجماع في الفراش .
و رأى كسرى يوماً كيف يسلخ الحيوان و يطبخ ، فتقلبت نفسه ، و نفي اللحم ، فذكر ذلك لوزيره ، فقال : أيها الملك ، الطبيخ على المائدة و المرأة في الفراش ،و معناه لا تفتش على ذلك .
فقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا رآه مني ، و قام ليلة عرياناً فما رأيت جسمه قبلها . وهذا الحزم ، و بذلك لا يعيب الرجل المرأة لأنه ير عيوبها .و ليكن للمرأة فراش و له فراش ، فلا يجتمعان إلا في حال الكمال . ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة متبذلة تقول : هذا أبو أولادي ، و يتبذل هو فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي ، فبنظر القلب و تبقى المعاشرة بغير المحبة .
و هذا فضل ينبغي تأمله و العمل به فإنه أصل عظيم .
· فصل : من أذل نفسه خسر الدنيا و الآخرة
لا عيش في الدنيا إلا للقنوع بالسير ، فإنه كلما زاد الحرص على فضول زاد الهم ، و تشتت القلب ، و استعبد العبد .
و أما القنوع فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه ، و لا يبالي بمن هو مثل ، إذ عنده ما عنده .
و إن أقواماً لم يقنعوا و طلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم ، و ذلوا لغيرهم .
و خصوصاً أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فإستعبدوهم ، و رأوا المنكرات ، فلم يقدروا على إنكارها ،و ربما مدحوا الظالم اتقاء لشره .
فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا .
و من أقبح الناس حالا من تعرض للقضاء و الشهادة ، و لقد كانتا مرتبتين حسنتين .و كان عبد الحميد القاضي لا يحابي ، فبعث إلى المعتضد و قال له : [ قد إستأجرت وقوفاً فأد أجرتها ، ففعل ] .و قال له المعتضد : [ قد مات فلان و لنا عليه مال ، فقال : أنت تذكر لما وليتني قلت لي : قد أخرجت هذا الأمر من عنقي و وضعته في عنفك ، و لا أقبل هذا الذي تقول إلا بشاهدين ].
و كذلك كان الشهود ، دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم : [ إشهدوا على مولانا بكذا ، فشهدوا ، فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال : يا أمير المؤمنين ، أشهد عليك بما في هذا الكتاب ، فقال : أشهد ]قال : إنه يكتفي في ذلك ، لا أشهد حتى تقول نعم ، قال : نعم .
فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل ، خصوصاً من يتقرب . إليه بالمال ليستشهد فتراه يسحب ليشهد على ما لا يرى
قال لي أبو المعالي بن شافع : [ كنت أحمل إلى بعض أهل السواد ، و هو محبوس و أشهد عليه . و أنا أستغفر الله من ذلك ] .
و ليس للشهود جراية فيحملون ذلك لجلها ، و إنما الذي يحصل جر الطيلسان ، و طرق الباب ، و قول المعرف : حرس الله نعمتك ، شهادة.و لما قيل لإبراهيم النخعي : [ تكون قاضياً .ليس قميصاً أحمر و جلس في السوق . فقالوا كان هذا لا يصلح ] .
و دخل بعض الكبار على الرشيد ـ و قد أحضره ليوليه القضاء ـ فسلم و قال له : [ كيف أنت و كيف الصبيان ؟ ]
فقيل : هذا مجنون ، فيا لله جنون هو العقل .و ما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلاً في أكثر القلوب .نسأله الله سبحانه و سلامة الدين فإنه قادر .
· فصل : العبث على الله محال
قد تكرر معناه في هذا الكتاب ، إلا أن إعادته على النفوس مهمة لئلا يغفل عن مثله .ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث ، و هذا العلم يوجب نفي الإعتراض على القدر .
و قد لهج خلق بالإعتراض قدحاً في الحكمة ، و ذلك كفر .
و أولهم إبليس في قوله : خلقتني من نار و خلقته من طين .
و معنى قوله : أن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة .و قد رأيت من كان فقيهاً دأبه الإعتراض .و هذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل ، و لو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا حسن أن يعترض عليه .فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته ، فإعتراض الناقص الجاهل عليه جنون .فأما إعتراض الخلعاء فدائم ، لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم ، فمتى إنكسر لأحدهم إعتراض .
و فيهم من يتعدى إلى ذكر الموت فيقول : بنى و نقض .
و كان لنا رفيق قرأ القرآن و القراءات و سمع الحديث الكثير ، ثم وقع في الذنوب و عاش أكثر من سبعين سنة ، فلما نزل به الموت ذكر لي انه قال : [ قد ضاقت الدنيا إلا من روحي ] .
و من هذا الجنس سمعت شخصاً يقول عند الموت : ربي يظلمني . و هذا كثير .و يكره أن يحكى كلام الخلعاء في جنونهم و إعتراضاتهم الباردة .و لو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة و مارستان صبر ليبين بذلك أثر الخالق ، لما إعترضوا .
و الذي طلبوه من السلامة و بلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا .
فهم كالزور جاري يتلوث بالطين ، فإذا فرغ لبس ثياب النظافة .
و لما أريد نقض هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نحيت عنه النفس الشريفة و بني بناء يقبل الدوام .و بعد هذا فقل للمعترض : فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .قل له : إن إعترض لم يمنع ذلك جريان القدر ، و إن سلم جرى القدر . فلأن يجري و هو مأجور ، خير من أن يجري و هو مأزور .و ما أحسن سكوت وضاح اليمن لما إختبأ في صندوق ، فقال السلطان : [ أيها الصندوق ، إن كان فيك ما نظن فقد محونا أثرك ] .و إن لم يكن فليس بدفن خشب من جناح .
فلو أنه صاح ما إنتفع بشيء ، و لربما أخرج فقتل أقبح قتلة .
· فصل : إجتماع الهمة في خدمة الحق
من تلمح أحوال الدنيا ، علم أن مراد الحق سبحانه إجتنابها .
فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة ، و إلى جانب كل راحة تعباً ، و آخر كل لذة نقصاً يزيد عليها .
و ما رفع شيء من الدنيا إلا و وضع .
أحب الرسول صلى الله عليه و سلم عائشة رضي الله عنها ، فجاء حديث الإفك .
و مال إلى زينب ، فجاء : فلما قضى زيد منها وطراً .
ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه فعين العقل ترى فراقه فيتنغص عند وجوده ، كما قال الشاعر :
أتم الحزن عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا ، فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة و ترك الشواغل ، فيجتمع الهم في خدمة الحق .و من عدل عن ذلك ندم على الفوات .
· فصل : نصائح شتى العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا .
فإن كان فقيراً إجتهد في كسب و صناعة تكفه عن الذل للخلق ، و قلل العلائق ، و إستعمل القناعة ، فعاش سليما من منن الناس عزيزاً بينهم . وإن كان غنياً فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق .
و من البلية أن يبذر في النفقة و يباهي بها ليكمد الأعداء .
كأنه يتعرض بذلك ـ إن أكثر ـ لإصابته بالعين .
و ينبغي التوسط في الأحوال ، و كتمان ما يصلح كتمانه .
و لقد وجد بعض الغسالين مالاً فأكثر النفقة ، فعلم به ، فأخذ منه المال ، و عاد إلى الفقر .
و إنما التدبير حفظ المال ، و التوسط في الإنفاق ، و كتمان ما لا يصلح إظهاره .
و من الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال ، فإنه إن كان قليلاً هان عندها الزوج ، و إن كان كثيراً طلبت زيادة الكسوة و الحلى
قال الله عز وجل : و لا تؤتوا السفهاء أموالكم و كذلك الولد .
و كذلك الأسرار ، ينبغي أن تحفظ و أن يحذر منها ، و من الصديق ، فربما إنقلب ، فقد قال الشاعر :
إحذر عدوك مرة و احذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
بحمد الله تعالى قد نجز ما توخاه الفكر الفاتر من تقييد ما جمعه القلم من صيد الخاطر ، مقتصراً فيه على ما به التخلي من الأمراض النفسية ، و التخلي بالآداب الشرعية و الأخلاق المرضية .جعله الله تعالى خير هاد على منبر الوعظ و الإرشاد ، و أنفع كتاب تجلى في مرايا الظهور لهداية العباد .
و الحمد لله أولاً و آخراً ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق