الفصل الثاني:
إخواني، إلى كم تماطلون بالعمل، وتطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا:
ولو أننا إذا متنا تركنا ** لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّا إذا متنا بعثنا ** ونسأل بعدها عن كل شيء
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام 160]، فإن السيئة وإن كانت واحدة، فإنها تتبعها عشر خصال مذمومة:
أولها: إذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه.
والثانية: أنه فرّح إبليس لعنه الله.
والثالثة: أنه تباعد من الجنة.
والرابعة: أنه تقرّب من النار.
والخامسة: أنه قد آذى أحب الأشياء إليه، وهي نفسه.
والسادسة: أنه نجس نفسه وقد كان طاهراً.
والسابعة: أنه قد آذى الحفظة.
والثامنة: أنه قد احزن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره.
والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان.
والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.
ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، إذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، إذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما وصلت إلى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فإذا أنا بصوت حزين وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين.
فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فإذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه.
فبينما أنا كذلك، إذ أنا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فإذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول إلى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي إليك حاجة، فإن قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: إذا أنا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فإذا قضيت الحج، فانك تصل إلى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فإذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام.
قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته ورايته التراب، وسرت إلى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت إلى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت إلى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فإذا أنا بالصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول:
الناس كلهم للعيد قد فرحوا ** وقد فرحت أنا بالواحد الصمد
الناس كلهم للعيد قد صبغوا ** وقد صبغت ثياب الذل والكمد
الناس كلهم للعيد قد غسلوا ** وقد غسلت أنا بالدمع للكبد
قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله إن أبي رفع إلى سدرة المنتهى، ولكن سر معي إلى جدتي.
فأخذ بيدي وسار معي إلى منزله، فلما وصل إلى الباب نقر نقرا خفيفا، فإذا بالعجوز قد خرجت إلينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، إن خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى.
ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حضي بما أمل من العزيز الغفار.
فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي إلى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: إن الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق إلى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.
يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك. لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيا موجودا، كأنك لا تعود نسيا مفقودا.
فاز، والله، لمخفون من الأوزار، وسلم المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار.
وأنشدوا:
عيل صبري وحق لي أن أنوحا ** لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا
أخلقت مهجتي أكف المعاصي ** ونعاني المشيب نعيا صريحا
كلما قلت قد بري جرح قلبي ** عاد قلبي من الذنوب جريحا
إنما الفوز والنعيم لعبد ** جاء في الحشر آمنا مستريحا
إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون.
يا من غدا في الغيّ والتيه ** وغرّه طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ** ولم تخف غبّ معاصيه
قال الجنيد رضي الله عنه: مرض السّريّ السّقطي رضي الله عنه فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ** والذي قد أصابني من طبيبي
فأخذت المروحة لأروّح عليه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول:
القلب محترق والدمع مستبق ** والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له ** مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا ربّ إن كان شيء فيه لي فرج ** فامنن عليّ به ما دام بي رمق
ويروى عن علي بن الموفق رضي الله عنه أنه قال: خرجت يوما لأؤذن، فأصبت قرطاسا، فأخذته ووضعته في كمي، وأقمت الصلاة وصليت، فلما صليت قرأته، فإذا مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي بن الموفق، أتخاف الفقر وأنا ربك؟.
ويروى عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنيّة شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري: أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت اعفو من الذنب ولم تزل ** تجود وتعفو منّة وتكرّما
فلولاك لم ينجو من إبليس عابد ** وكيف وقد أغوى صفيّك آدما
إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى:
وأنشدوا:
ألا قف ببابي عند قرع النوائب وثق ** بي تجدني خير خلّ وصاحب
ولا تلتفت غيري فتصبح نادما ** ومن يلتفت غيري يعش خائب
كان أبو محفوظ معروف الكرخي قد خصّه الله بالاجتباء في حال الصبا، يذكر أن أخاه عيسى قال: كنت أنا وأخي معروف في المكتب، وكنا نصارى، وكان المعلم يعلم الصبيان: أب وابن فيصيح أخي معروف: أحد أحد فيضربه المعلم على ذلك ضربا شديدا، حتى ضربه يوما ضربا عظيما، فهرب على وجهه.
وكانت أمه تبكي وتقول: لئن ردّ الله عليّ معروفا، لأتبعنّه على أي دين كان، فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة، فقالت له: يا بنيّ، على أي دين أنت؟ قال: على دين الإسلام، فقالت: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأسلمت أمي وأسلمنا كلنا.
وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان بين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت: يا أبا نصر, ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباح لي الجنة بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسك عن الشهوات في دار الدنيا.
فقلت له: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.
فقلت له: وما فعل الله بمعروف الكرخي؟ فحرّك رأسه، وقال هيهات هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب. إن معروفا لم يعبد الله شوقا إلى جنّته، ولا خوفا من ناره، وإنما عبده شوقا إليه، فرفعه إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجاب بينه وبينه.
ذلك الترياق المقدس المجرّب، فمن كانت له إلى الله حاجة، فليأت قبره، وليدع، فإنه يستجاب له إن شاء الله تعالى.
يروى عن محمد بن قدامة، قال: لقي بشر بن الحارث رجلا سكران، فجعل السكران يقبله، ويقول: يا سيدي أبا نصر، ولا يدفعه بشر عن نفسه، فلما تولى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبّ رجلا على خير توهّمه فيه، ولعل المحبّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله.
فوقف على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر، فقلت: يا أبا نصر، لعلك تشتهي من هذا شيئا؟ قال: ل، ولكن نظرت في هذا؛ إذا كان يطعم هذا لمن يعصيه، فكيف من يطيعه ماذا يطعمه في الجنة ويسقيه؟!.
إخواني: ما للغافل إلى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار، والله، عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام.
وأنشدوا:
دعوني على نفسي أنوح وأندب ** بدمع غزير واكف يتصبب
دعوني على نفسي أنوح لأنني ** أخاف على نفسي الضعيفة تعطب
فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصا ** إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب
فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي ** إذا كنت في نار الجحيم أعذب
وقد ظهرت تلك القبائح كلها ** وقد قرّب الميزان والنار تلهب
ولكنني أرجو الإله لعله ** بحسن رجائي فيه لي يتوهب
ويدخلني دار الجنان بفضله ** فلا عمل أرجو به أتقرّب
سوى حب طه الهاشمي محمد ** وأصحابه والآل من قد ترهبوا
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له: قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق: من أين أخذه وفيما أنفقه» ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا؟ حلالها حساب، وحرامها عقاب».
وأنشدوا:
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا ** فإن صلاحها عين الفساد
ولا تفرح لمال تقتنيه ** فإنك فيه معكوس المراد
قال بعض العارفين رضي الله عنه: إن أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت؟ فقال: لما كنت في النزع، أتاني إبليس لعنة الله عليه، وقال لي: يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ إلى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي: يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا.
وأنشدوا:
وقفت وأجفاني تفيض دموعها ** وقلبي من خوف القطيعة هائم
وكل مسيء أوبقته ذنوبه ** ذليل حزين مطرق الطرف نادم
فيا رب ذنبي تعاظم قدره ** وأنت بما أشكو يا رب عالم
وأنت رؤوف بالعباد مهيمن ** حليم كريم واسع العفو راحم
يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف؟.
ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل: ما تشتهي؟ قال: نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له: يا جابر كيف تجدك؟ قال: أجد أمر الله غير مردود. يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الحسن: يا جابر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن من الله على سبيل خير، إن تاب قبله، وإن استقال أقاله، وإن اعتذر إليه قبل اعتذاره، وعلامة قبل ذلك خروج روحه يجد بردا على قلبه». فقال جابر: الله أكبر! إني لأجد بردا على قلبي. ثم فال: اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه.
وكان سبب توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول:
تزيد بلى في كل يوم وليلة ** وتسأل لما تبلى وأنت حبيب
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ** لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
مرّ عيسى عليه السلام على قرية، فوجد كل من فيها أمواتا، وهم مطروحون على وجوههم في الأزقّة، فتعجّب عيسى عليه السلام من ذلك، وقال: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء القوم قد ماتوا على سخط وغضب، ولو ماتوا على رضا من الله، لدفن بعضهم بعضا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أن نعرف قضيّتهم وخبرهم. قال: فسأل الله عز وجل في ذلك، فأوحى الله إليه: إذا كان الليل نادهم، فإنهم يجيبونك.
فلما كان من الليل، صعد عيسى على شرف ونادى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب من بينهم: لبيّك يا روح الله، فقال: ما قضيتكم, وما خبلاكم؟ فقال: يا روح الله، بتنا في عافية، وأصبحنا في هاوية. قال: ولم ذلك؟ قال: لحبنا في الدنيا، وطاعة لأهل المعاصي، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر. فقال له عيسى عليه السلام: كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبي لأمه؛ إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت جزنّا وبكينا. فقال له عيسى عليه السلام: يا هذا: ما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: إنهم ملجمون بلجام من النار بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: وكيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: إني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب لحقني معهم، فأنا الآن معلّق على شفير جهنّم، لا أدري: أنجو منها، أم أكبّ فيها.
أعاذنا الله هنا.
يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، ابك على معصيتك فلعلك مطرود. يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من إرشادها نصحا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} [الانشقاق 6].
وأنشدوا:
لما نقضى زمن التواصل والرضا ** قد صرت تطلب ردّ أمر قد مضى
هلا أتيت ووقت وصلك ممكن ** وبياض شيبك في العوارض ما أضا
يا أخي: هذا أوان الرجوع والاستغفار والإقلاع عن الذنوب والأوزار. من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره، فليتجهز إلى النار.
وأنشدوا:
أتيتك راجيا يا ذا الجلال ** ففرّج ما ترى من سوء حالي
عصيتك سيّدي ويلي بجهلي ** وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلى من يشتكي المملوك إلا ** إلى مولاه يا مولى الموالي
فويلي لم أمي لم تلدني ** ولا أعصيك في ظلم الليالي
وها أنا ذا عبيدك عبد سوء ** ببابك واقف يا ذا الجلال
فان عاقبت يا ربي فاني ** محق بالعذاب وبالنكال
وان تعفو فعفوك أرتجيه ** ويحسن إن عفوت قبيح حالي
يقول الله عز وجل: يا عبادي، أما علمتم إني جعلت الدنيا دار تكليف وامتحان، وأني لا أخص بمنازل الفضل والإحسان إلا من تاب إليّ فيها عن مواطن الزلات والعصيان، فما لكم ما أتيتم لبابي، ولا رغبتم في جزيل فضلي وثوابي، ولا خفتم من أخذي وعقابي؟.
فيا من جلّت غفلته، وطالت سكرته، تأمّل عطف الموالي عليك، وإحسانه إليك. فبالله عليكم، حطّوا بالتوبة عن ظهوركم، واغسلوا وجوهكم بقطرات الدموع، واشتملوا بأردية التذلل والخضوع.
وأنشدوا:
ركبت مآثمي فلقيت ذلا ** وسالت عبرتي طلا ووبلا
وصرت أعاتب القلب المبلا ** إلى من يشتكي المملوك إلا
إلى مولاه يا مولى الموالي ** فلطفك بي إله العرش أولى
إخواني، إلى كم تماطلون بالعمل، وتطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا:
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام 160]، فإن السيئة وإن كانت واحدة، فإنها تتبعها عشر خصال مذمومة:
أولها: إذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه.
والثانية: أنه فرّح إبليس لعنه الله.
والثالثة: أنه تباعد من الجنة.
والرابعة: أنه تقرّب من النار.
والخامسة: أنه قد آذى أحب الأشياء إليه، وهي نفسه.
والسادسة: أنه نجس نفسه وقد كان طاهراً.
والسابعة: أنه قد آذى الحفظة.
والثامنة: أنه قد احزن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره.
والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان.
والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.
ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، إذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، إذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما وصلت إلى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فإذا أنا بصوت حزين وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين.
فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فإذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه.
فبينما أنا كذلك، إذ أنا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فإذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول إلى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي إليك حاجة، فإن قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: إذا أنا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فإذا قضيت الحج، فانك تصل إلى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فإذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام.
قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته ورايته التراب، وسرت إلى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت إلى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت إلى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فإذا أنا بالصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول:
قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله إن أبي رفع إلى سدرة المنتهى، ولكن سر معي إلى جدتي.
فأخذ بيدي وسار معي إلى منزله، فلما وصل إلى الباب نقر نقرا خفيفا، فإذا بالعجوز قد خرجت إلينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، إن خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى.
ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حضي بما أمل من العزيز الغفار.
فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي إلى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: إن الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق إلى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.
.الفصل الثالث:
أيها
المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ
الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ؟ تطلب من
الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من
الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق.يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك. لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيا موجودا، كأنك لا تعود نسيا مفقودا.
فاز، والله، لمخفون من الأوزار، وسلم المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار.
وأنشدوا:
إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون.
قال الجنيد رضي الله عنه: مرض السّريّ السّقطي رضي الله عنه فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال:
فأخذت المروحة لأروّح عليه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول:
ويروى عن علي بن الموفق رضي الله عنه أنه قال: خرجت يوما لأؤذن، فأصبت قرطاسا، فأخذته ووضعته في كمي، وأقمت الصلاة وصليت، فلما صليت قرأته، فإذا مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي بن الموفق، أتخاف الفقر وأنا ربك؟.
ويروى عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنيّة شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري: أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول:
إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى:
وأنشدوا:
كان أبو محفوظ معروف الكرخي قد خصّه الله بالاجتباء في حال الصبا، يذكر أن أخاه عيسى قال: كنت أنا وأخي معروف في المكتب، وكنا نصارى، وكان المعلم يعلم الصبيان: أب وابن فيصيح أخي معروف: أحد أحد فيضربه المعلم على ذلك ضربا شديدا، حتى ضربه يوما ضربا عظيما، فهرب على وجهه.
وكانت أمه تبكي وتقول: لئن ردّ الله عليّ معروفا، لأتبعنّه على أي دين كان، فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة، فقالت له: يا بنيّ، على أي دين أنت؟ قال: على دين الإسلام، فقالت: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأسلمت أمي وأسلمنا كلنا.
وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان بين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت: يا أبا نصر, ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباح لي الجنة بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسك عن الشهوات في دار الدنيا.
فقلت له: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.
فقلت له: وما فعل الله بمعروف الكرخي؟ فحرّك رأسه، وقال هيهات هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب. إن معروفا لم يعبد الله شوقا إلى جنّته، ولا خوفا من ناره، وإنما عبده شوقا إليه، فرفعه إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجاب بينه وبينه.
ذلك الترياق المقدس المجرّب، فمن كانت له إلى الله حاجة، فليأت قبره، وليدع، فإنه يستجاب له إن شاء الله تعالى.
.الفصل الرابع:
يا
إخوان الغفلة تيقظوا، يا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعظوا، فبالله
أخبروني: من أسوأ حالا ممن استعبده هواه، أم من أخسر صفقة ممن باع آخرته
بدنياه، فما للغفلة قد شملت قلوبكم؟ وما للجهالة قد ترت عنكم عيوبكم؟ أما
ترون صوارم الموت بينكم لامعة، وقوارعه بكم واقعة، وطلائعه عليكم طالعة،
وفجائعه لعذركم قاطعة، وسهامه فيكم نافذة، وأحكامة بنواصيكم آخذة؟ فحتى م؟
والى م؟ وعلام التخلف والمقام؟ أتطمعون في بقاء الأبد؟ كلا والواحد والصمد.
إن الموت لبالرّصد، ولا يبقي على والد ولا ولد، فجدّوا، رحمكم الله، في
خدمة مولاكم، وأقلعوا عن الذنوب، فلعله يتولاكم.يروى عن محمد بن قدامة، قال: لقي بشر بن الحارث رجلا سكران، فجعل السكران يقبله، ويقول: يا سيدي أبا نصر، ولا يدفعه بشر عن نفسه، فلما تولى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبّ رجلا على خير توهّمه فيه، ولعل المحبّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله.
فوقف على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر، فقلت: يا أبا نصر، لعلك تشتهي من هذا شيئا؟ قال: ل، ولكن نظرت في هذا؛ إذا كان يطعم هذا لمن يعصيه، فكيف من يطيعه ماذا يطعمه في الجنة ويسقيه؟!.
إخواني: ما للغافل إلى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار، والله، عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام.
وأنشدوا:
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له: قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق: من أين أخذه وفيما أنفقه» ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا؟ حلالها حساب، وحرامها عقاب».
وأنشدوا:
قال بعض العارفين رضي الله عنه: إن أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت؟ فقال: لما كنت في النزع، أتاني إبليس لعنة الله عليه، وقال لي: يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ إلى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي: يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا.
وأنشدوا:
يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف؟.
ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل: ما تشتهي؟ قال: نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له: يا جابر كيف تجدك؟ قال: أجد أمر الله غير مردود. يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الحسن: يا جابر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن من الله على سبيل خير، إن تاب قبله، وإن استقال أقاله، وإن اعتذر إليه قبل اعتذاره، وعلامة قبل ذلك خروج روحه يجد بردا على قلبه». فقال جابر: الله أكبر! إني لأجد بردا على قلبي. ثم فال: اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه.
وكان سبب توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول:
.الفصل الخامس:
إخواني:
قيّدوا هذه النفوس بزمام، وازجروا، هذه القلوب عن الآثام، واقرؤوا صحف
العبر بألسنة الأفهام. يا من أجله خلفه وأمله قدّام، يا مقتحما على الجرائم
أيّ اقتحام، انتبهوا يا نوّام، كم ضيّعتم من أعوام، الدنيا كلها منام،
وأحلى ما فيها أضغاث أحلام، غير أن عقل الشيخ فيها الغلام، فكل من قهر نفسه
فهو الهمام. هذه الغفلة قد تناهت، والمصائب قد تدانت، فإنّا لله وإنا إليه
راجعون، والسلام.مرّ عيسى عليه السلام على قرية، فوجد كل من فيها أمواتا، وهم مطروحون على وجوههم في الأزقّة، فتعجّب عيسى عليه السلام من ذلك، وقال: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء القوم قد ماتوا على سخط وغضب، ولو ماتوا على رضا من الله، لدفن بعضهم بعضا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أن نعرف قضيّتهم وخبرهم. قال: فسأل الله عز وجل في ذلك، فأوحى الله إليه: إذا كان الليل نادهم، فإنهم يجيبونك.
فلما كان من الليل، صعد عيسى على شرف ونادى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب من بينهم: لبيّك يا روح الله، فقال: ما قضيتكم, وما خبلاكم؟ فقال: يا روح الله، بتنا في عافية، وأصبحنا في هاوية. قال: ولم ذلك؟ قال: لحبنا في الدنيا، وطاعة لأهل المعاصي، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر. فقال له عيسى عليه السلام: كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبي لأمه؛ إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت جزنّا وبكينا. فقال له عيسى عليه السلام: يا هذا: ما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: إنهم ملجمون بلجام من النار بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: وكيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: إني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب لحقني معهم، فأنا الآن معلّق على شفير جهنّم، لا أدري: أنجو منها، أم أكبّ فيها.
أعاذنا الله هنا.
يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، ابك على معصيتك فلعلك مطرود. يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من إرشادها نصحا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} [الانشقاق 6].
وأنشدوا:
يا أخي: هذا أوان الرجوع والاستغفار والإقلاع عن الذنوب والأوزار. من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره، فليتجهز إلى النار.
وأنشدوا:
يقول الله عز وجل: يا عبادي، أما علمتم إني جعلت الدنيا دار تكليف وامتحان، وأني لا أخص بمنازل الفضل والإحسان إلا من تاب إليّ فيها عن مواطن الزلات والعصيان، فما لكم ما أتيتم لبابي، ولا رغبتم في جزيل فضلي وثوابي، ولا خفتم من أخذي وعقابي؟.
فيا من جلّت غفلته، وطالت سكرته، تأمّل عطف الموالي عليك، وإحسانه إليك. فبالله عليكم، حطّوا بالتوبة عن ظهوركم، واغسلوا وجوهكم بقطرات الدموع، واشتملوا بأردية التذلل والخضوع.
وأنشدوا:
إلى مولاه يا مولى الموالي ** فلطفك بي إله العرش أولى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق