.الفصل الثاني والعشرون: دموع المذنبين:
سبحان
من يرسل رياح المواعظ فتثير من قلوب المتيقظين غيم الغم على ما سلف،
فتسوقه إلى بلد الطبع المجدب برعد الوعيد، وبريق الخشية، فترقأ دموع
الأحزان من قعر بحر القلب إلى أوج الرأس، فتسيل ميازيب الشؤون على نطوع
الوجنات، فإذا أعشب السر تهتز فرحا بالإجابة.إذا أَرعدت سحائب التخويف انزعج لها قلب المذنب فانفتحت صحائف أصداف سره كانفتاح أصداف البحر لتلقي قطر نيسان فقطرت فيها قطرات عزائم عقدها لؤلوا، ربيع العرفان التوبة الصادقة، كيمياء السعادة إذا وضعت منها حبة صافية على جبال من أكدار الذنوب دكتها كهيبة التجلي قبل المباشرة، فصارت كحلا مصلحا لأحداق البصائر.
رب ذنب أدخل صاحبه الجنة، إذا صدق التائب قلبت الأمارة مطمئنة، لما أخذ الخليل عليه السلام في طريق الصبر فتبعه الذبيح واستسلما، ألقي على السكين السكون، إذا جالس التائب رفيق الفكر، أعاد عليه حديث الزلل، وندمه على ركوب الخطل، فرأيت العين التي كانت فجرت قد انفجرت، وسمعت لسان الأسى يعيد لفظة: لا أعود وعانيت عامل اليقظة قد بث عمال الجد في رستاق القلب للعمارة، فيا أيها المذنب: إذا أشكل عليك أمر فليفصح لك دمعك.
يا مطلقا في وصالنا راجع، يا حالفا على هجرنا كفر، إنما أبعدنا إبليس لأنه لم يسجد لك.
فواعجبا!! كيف صالحته وهجرتنا!!؟ ويحك لك من عندنا من القدر ما لا تعرفه لليلة القدر.
.الفصل الثالث والعشرون: في ترك الشهوات:
حبال الدنيا خيال تعز العز، انقطعت منذ الصلة اتصلت بعزة فرعون الهوى. إذا ألقى موسى الزهد عصا الشهوات إذا هي تتلقف.الدنيا سوق فيها ضجيج الشهوات، فإذا اشتغلت بها فمن يسمع المواعظ، نادى بالصالحين أمير نمل التوفيق، عند ممر سليمان البلاء، كفوا أكف الطباع عن تناول لقم الهوى {لا يُحَطِمَنِكُم سُليمانَ وَجُنودَهُ}.
«سبعة يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، منهم رجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله» اسمع يا من أجاب عجوزا شوهاء، لاح للأولياء حب المشتهى فمدوا أيدي التناول، فبان للبصائر خيط الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوت مناديهم إلى الرعيل الثاني {يا لَيتَ قَومي يَعلمون}.
ما أصعب السباحة في غدير التمساح؟ ما أشق السفر في الأرض المسبعة، أي مقيد الوجود في فناء الفناء: قامت قيامة الملامة وما تسمع، لقد نصحك صوت النصح، ولكن صلج الآذان مانع.
كم لاحت لك شهوة تردي، ويعقوب المواعظ يعض أنامل التحذير يوم البرهان؟ وأنت لا تلتفت.
ويحك أحضر الطبع الجاهل مجلس التفكر، فقد فهم حبيب العجمي وعظ الحسن.
يا مقيما على الهوى وليس بمقيم، يا مبذرا في بضاعة العمر، متى يؤنس منك رشد؟ يا أكمه البصيرة ولا حيلة فيه لعيسى أي طويل الرقاد ولا نومة أهل الكهف: قدر أن الموت لا يتفق بغتة، أليس المرض يبغت؟
ويحك قد بقي القليل فاستدرك ذبالة السراج، أما يزعجك صوت الحادي؟ أما يؤلمك سوط السائق؟
يا دائرة الشقا: أين أولك؟ يا أرض التيه: متى آخرك؟ يا أيوب البلاء: كم تقيم على الكناسة؟ أما حان حين {اِركض}.
يا محصرا عن الوصال لا في سفر الحج، وضالا عن الهدى لا يجزيه الهدي، يا منقطعا في سبيل السلوك عن جملة الوفد، إذا احتسبت في مرض الهوى بموت الطرد، فتحامل إلى فناء خيمة أهل الوصل، وأشهد على وصيتك من المقبولين ذوي عدل، وناد بانكسار الذل على حسرة الفوت.
.الفصل الرابع والعشرون: إياك والذنوب:
أعظم المصائب شماتة الأعداء، وعداوة الشيطان قديمة من يوم {أَبَى وَاستَكبَر} وحسد إبليس من يوم {أَتَجعَلُ}
وفرح النظراء بك أعظم الكل، وما انتقم منك حاسد بأكثر من تفريطك، ولا
انتقمت منه بأعظم من تقويمك، فالحظ كيف أبت نفسك الحظ وأنلت الحاسد المراد:ويحك تبصر عن الهوى تحمد عواقب السلامة.
إياك والذنوب، فلو لم يكن فيها إلا كراهة اللقاء كفى عقوبة.
أطيب الأشياء عند يعقوب رؤية يوسف وأصعبها عند إخوته لقاؤه. إذا كان القلب نقيا ضج لحدوث المعصية، فإذا تكررت مرت عليه ولم ينكر، كانت الخطيئة عنده غريبة فاستوحش، فلما صارت بليد الطبع لم ينفر.
لابس الثوب الأسود لا يجزع من وقوع الحبر عليه، يا جرحى الذنوب قد عرفتهم المراهم، إن لم تقدروا على أجرة نائحة فنسكوا رؤوس الندم، فما يخفى صاحب المصيبة، فإن فاتكم عز معاذ فلا تعجزوا عن ذل الثلاثة الذين خلفوا.
خذوا دليل العزم إن لم تعرفوا سبيل الوصول، فلعل حيرة الطالب توقعه على ماء مدين سيروا في بوادي الدجى، وأنيخوا بوادي الذل في كسر الانكسار، وأصيخوا بأسماع اليقظة لعل حداء الواصلين تحرك أطراب القلوب، لا بل ربما عوق السائرون لوصول المنقطع، فكم قد صار في الرعيل الأول من كان في الساقة؟ لا تملوا الوقوف ولو طردتم، ولا تقطعوا الإعتذار وإن رددتم، فإن فتح باب للواصلين دونكم اهجموا هجوم الكدائين، ونكسوا رؤوس الفقر، وابسطوا أكف {وَتصَدَق عَلَينا} لعل هاتف القبول يقول: {لا تَثريبَ عَلَيكُم}.
.الفصل الخامس والعشرون: محبة الله سبحانه:
الجنة
ترضي منك بالزهد، والنار تندفع عنك بترك الدنيا، والمحبة لا تقنع إلا
بالروح، إن سلطان المحبة لا يقبل الرشا. أيها الطالب لي: اخرج إليّ عنك،
قلبك ضعيف لا يفي بي وبك، إما أنت وإما أنا، افقد نفسك تجدني. لما نسي
الخليل نفسه قويت صولته يوم أما إليك فلا ما سلك قط طريقا أطيب من تلك
الفلاة التي دخلها عند انفصاله من المنجنيق. زيارة تسعى فيها أقدام الرضى
على أرض الشوق شابهت ليلة فزجني في النور فقال: ها أَنتَ وَرَبُك.لاحت أوصاف الصانع في جمال الكمال، فأُشربت قلوبهم حبه، فصاح غلاء الثمن.
بدم المحب يباع وصلهم.
فأجاب عزم المحبة: وما غَلَت نَظرَةٌ مِنكُم بِسَفكِ دَمِ قلبهم الحب في قفر على أكف البلاء، فقطع أوداج الأغراض بسكين المسكنة، والمحبوب يقول {أَتَصبِرون} والأرواح تجيب: {لا ضَيرَ}.
غاب القوم عن وجودهم شغلا بموجدهم طرق طارق باب أبي يزيد وقال: ههنا أبو يزيد؟ فصاح أبو يزيد: أبو يزيد يطلب أبا يزيد فما يراه!!!؟ لا يعرف رموز الأحباب إلا مجانس، سل ليلى عن حال المجنون؟ بلغت بهم المحبة إلى استحلاء الآلام لعلمهم أنها مراد الحبيب.
وكل ما يفعل المحبوب محبوب لما طعن حرام بن ملحان قال: فزت ورب الكعبة.
ضني:سويد بن شعبة على فراشه فكان يقول: والله ما أحب أن الله نقصني منه قلامة ظفر.
المحبوب محبو وإن عذب. استقرت جبال المحبة في أرض القلوب، فلم تزعزعها عواصف البلاء.
أمر الحجاج بصلب ماهان العابد فوق خشبة، فصلب وهو يسبح ويعقد بيده حتى بلغ تسعا وعشرين، فبقي شهرا ويده على ذلك العقد.
إذا وقعت المعرفة في القلب سهل البلاء، فإن مازجتها المحبة فلا أثر للبلاء، لأن المحب يستلذ إذن كل أذى.
مروا على مجذوم قد قطعه الجذام فقالوا: لو تداويت، فقال: لو قطعتني قطعا، ما ازددت له إلا حبا.
.الفصل السادس والعشرون: طلب العلم:
العلم والعمل توأمان، أمّهما علو الهمة. أيها الشاب: جوهر نفسك بدراسة العلم، وحلها بحلة العمل، فإن قبلت نصحي لم تصلح.إلا لصدر سرير أو لذروة منبر من لم يعمل بعلمه، لم يدر ما معه، حامل المسك إذا كان مزكوما فلا حظ له فيما حمل. بحر قلب العالم يقذف إلى ساحل اللفظ جواهر النطق، فتلتقطها أكف الفهم.
تالله إن العالم لخاتم خنصر الدهر. العلماء غرباء في الدنيا لكثرة الجهال بينهم. تصنيف العالم: ولده المخلد. للعالم علم.
أيها المعلم: ثبت على المبتدي {وَقَدِر في السَرد} فالعالم رسوخ، والمتعلم قلق. ويا أيها الطالب: تواضع في الطلب، فإن التراب لما ذل لأخمص القدم، صار طهورا للوجه، ولا يتأس مع مداومة الخير أن يقوى ضعفك، فالرمل مع الزمان يستحجر. صابر ليل البلاء، فبعين الصبر ترى فجر الأجر، ما يدرك منصب بلا نصب، ألا ترى إلى الشوك في جوار الورد.
أيها المبتدي: تلطف بنفسك، فمداراة الجاهل صعبة، تنقل من درج الرخص إلى سطوح العزائم ولا تيأس من المراد، فأول الغيث قطر ثم ينسكب.
ندم على حضور المجلس، فالطفل يحتاج كل ساعة إلى الرضاع، فإذا صار رجلا صبر على الفطام، على أن الماء إذا كثر صدمه للحجر أثر. يا عطاش الهوى في تيه القوى: انحرفوا إلى جادة العلم، فكم في فيافي التعلم من عين تعين على قطع البادية.
طريق الفضائل مشحونة بالبلاء، ليرجع عنها محنث العزم، إذا نزلت بالحازم بلية فوجد مذاقها مرا، أدار في الفكر حلو العواقب، فنسخ وسخ ما رسخ. العاقل صابر للشدائد لعلمه بقرب الفرج، والجاهل على الضد، كما أن النار إذا اشتعلت في حطب الزيتون لم يدخن، بخلاف السوس، ألا إن الطبع طفل، والعقل بالغ.
.الفصل السابع والعشرون: الدنيا لا تصلح للتوطن:
إخواني:
الدنيا ملتقى الوداع، فاصبروا لما مر منها فكأن قد مر، واحذروا شرها فقد
سحرت سحرة بابل، مكارهها في غصون المحبوب وأعقابه، ما أمسى أحد منها في
جناح آمن، إلا أصبح على قوادم خوف.أفنيت عمرك في طلبها، وما حصل بيدك إلا ما حصل بيد المجنون من ليلى.
تصحو في المجلس من خمار الدنيا ساعة ثم تستبيك حميا الكاس، وليس في البرق اللامع من مستمتع، لمن يخوض الظلمة، كما أعطف عطفك بلجام اليقظة، فإذا انقضى المجلس عاد الطبع ثاني عطفه.
وتأبى الطباع على الناقل جسمك عندنا، وقلبك غائب عنا، عزمك في طلب الدنيا، وتشتهي نيل الآخرة.
الدنيان مفازة لا تصلح للتوطن، إن البيدر إذا صفي حمل إلى دار الإقامة.
واعجبا لمن أطال الوقوف على القنطرة حتى نسي اسم البلد، ويحك. كسب الدنيا لذيذ غير أن الحساب عليها شديد، ساعة الحمل لعب، والجد في الولادة. نثار السكر في مبدأ العقد. مزاج لمرارة الوضع. الدنيا كامرأة فاجرة لا تثبت مع زوج فلذلك عيب طلابها.
الدنيا قنطرة على بحر الهلاك، فخذوا بالحزم في تعلم السباحة قبل الجواز، فما تأمن عثور قدم ولا عاصف قاصف، احذرها آمن ما تكون منها، وانتظر حزنها أسر ما تكون منها.
الدنيا دار ابتلاء تشبه قصر مصر، استبق لاباب فيها يوسف الصبر، وزليخا الهوى، وقمص الأعمال تعرض على يعقوب الشفاعة، فمن رأى قميصه قد قد من قبل قال: سحقا سحقا، ومن رأه قد قد من دبر قال: ادخرت شفاعتي.
فيامن قد ألقاه الهوى في جب حب الدنيا، سيارة القدر تبعث كل ليلة وارد: «هَل مِن سائِل؟» فكن متيقظا للوارد إذا أدلى دلو التخليص، وقم على قدم {تَتَجافَى} وامدد أنامل {يَدعونَ رَبَهُم} وألق ما في يمينك لتتعجل الخروج، ولا تتشبث بأرجاء بئر الهوى، فإنها رمل تنهار عليك، فإذا تخلصت بعزائمب الإنابة فاحذر من الطريق المسبعة، وسر في مصباح اليقين خلف دليل الهوى: فعند الصباح يحمد القوم السرى.
.الفصل الثامن والعشرون: اقترب للناس حسابهم:
صاح بالصحابة واعظ {اِقتَرَبَ لِلناسِ حِسابُهُم} فجزعت للخوف قلوب، فجرت للحزن عيون {فَسالَت أَودِيَةُ بِقَدَرِها}.رمى الصديق ماله حتى ثوبه على المدكر وتخلل بالعبا، وقال عمر: ليتني كنت نبة؟؟ وقال عثمان: ليتني إذا مت لا أبعث.
صاح علي بالدنيا: طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، وقد كانت تكفي واحدة، لكنه كيلا يتصور الهوى جواز المراجعة، وطبعه الكريم يأنف من المحلل.
وقال: أبو الدرداء: ليتني كنت شجرة تعضد.
وقال عمران بن حصين ليتني كنت رمادا.
أنت تسمع القرآن لكن لا كما سمعوه.
إقدام العارفين على التعبد، قد ألفت أقدامها الصفوف، تعتمد على سنابك الخوف، فإذا أثر النصب راوحت بين أرجل الرجاء.
انقسم القوم عند الموت، فبعضهم صابر الخوف حتى انقضى نحبه. كعمر كان يقول عند الرحيل: الويل لعمر إن لم يغفر له.
ومنهم من أقلقه عطش الحذر، فتبرد بماء الرجا، كبلال كانت زوجته عند الموت تقول: واكرباه وهو يقول: واطرباه، غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه، علم بلال أن الإمام لا ينسى المؤذن، فمزج الموت براحة الرجاء.
قال سليمان التيمي لولده عند الموت: اقرأ علي أحاديث الرخص لألقى الله تعالى وأنا حسن الظن به.
إلى متى تتعب الرواحل ولا بد لها من مناخ:
يا مخنث العزم: أين أنت والطريق نصب فيه آدم؟ وناح لأجله نوح ورمي في النار الخليل واضطجع للذبح اسحاق وبيع يوسف بدراهم بخس ونشر بالمناشير زكريا وذبح الحصور يحيى وضني بالبلاء أيوب وزاد على القدر بكاء داود وتنغص في الملك عيش سليمان وتخير بأرني موسى وهام مع الوحوش عيسى وعالج الفقر محمد.
أول قدم في الطريق بذل الروح. هذه الجادة فأين السالك، هذا قميص يوسف فأين يعقوب هذا طور سينا فأين موسى يا جنيد احضر، يا شبلي اسمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق